عمر الرداد يكتب:
هل الحل اللبناني بانتخابات مجلس النواب؟
تتنازع نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية مقاربتان؛ الأولى: ترى أنّ هناك تغييراً عميقاً عكسته تلك النتائج على خلفية فقدان حزب الله الأغلبية النيابية التي مكّنته طوال أعوام من السيطرة على الدولة اللبنانية من خلال تحالفات واختراقات لأوساط من خارج الطائفة الشيعية من فسيفساء الطوائف المشكلة للمجتمع اللبناني من سنّة ومسيحيين ودروز، والثانية: ترى أنّه ليس هناك تغيير حقيقي يؤمل تحقيقه مع نتائج هذه الانتخابات، رغم خسارة حزب الله الأغلبية مع حليفه التيار الوطني الحر، لا سيّما أنّ نتائج الانتخابات أبقت على الأسئلة المطروحة قبل إجرائها معلقة بلا إجابات، بما في ذلك الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، واستقلال لبنان، ودولة المواطنة، وسلاح حزب الله، ولمن يوجّه وضدّ من؟
المقاربتان تستندان لمرجعيات الاستعجال في التغيير، تحت ضغوطات التمسك بالمقاومة والممانعة من جهة، مقابل الرغبة العارمة بالتغيير بعودة لبنان إلى مستويات مقبولة من الدولة المستقلة في إطار فضائها العربي والمدني الحداثي من جهة ثانية، وهو ما يعود بالمقاربتين إلى حالة الانقسام في كثير من الدول العربية "فلسطين والعراق وسوريا" بين الانضمام لتيار الممانعة الذي تقوده طهران، أو تيار الاعتدال الذي تمثله الرياض والقاهرة وأبو ظبي.
في تفاصيل الانتخابات، أظهرت نتائجها مقدّمات لإمكانية "خلخلة" تكتيكية في قواعد الاشتباك السياسي، وعنوانها تراجع هيمنة حزب الله على الدولة من خلال خسارة حلفاء له، بمن فيهم محسوبون على النظام السوري، مقاعد خارج إطار مقاعد الشيعة، لكنّ هذه النتائج لا تلغي تلك الهيمنة بشكل كامل، خاصة أنّ لحزب الله اختراقات في مفاصل الدولة اللبنانية خارج إطار البرلمان، في أوساط السلطات الـ3، بما فيها الأجهزة الأمنية والقضاء.
إنّ تلك النتائج تؤسس للقول إنّ الانتخابات لم تحقق التغيير المنشود في إطار إستراتيجي، خاصة أنّ القوى الإقليمية والدولية الراعية لأطراف الصراع اللبناني لم تتوصل بعد إلى اتفاقات تشمل قضاياها الخلافية، ومن بينها الساحة اللبنانية؛ إذ لا يمكن تجاوز حقيقة أنّ الانتخابات جرت في سياقات إقليمية أبرز عناوينها مفاوضات فيينا بين إيران والقوى الكبرى حول صفقة نووية جديدة بين الطرفين، والمفاوضات بين المملكة العربية السعودية مع إيران، التي أنجزت (5) جولات بوساطة عراقية، وتدلّ تسريبات على أنّها ستنتقل في الجولة القادمة إلى مستويات سياسية تتجاوز سجون المستوى الأمني، وهو ما يطرح تساؤلات فيما إذا كان ما يوصف بخسارة حزب الله وحلفائه مجرّد رسالة تهدئة من طهران للفرقاء اللبنانيين وداعميهم حول إمكانية الوصول إلى تفاهمات في لبنان، كتلك التي أنجزت بهدنة في اليمن توقفت بعدها الصواريخ والطائرات المسيّرة عن ضرب أهداف في السعودية وأبو ظبي؟
ورغم جملة الحقائق التي أفرزتها نتائج الانتخابات في إطار المكوّنات الطائفية وفي مقدمتها تراجع شعبية حزب الله بين قواعده الشيعية، وبصورة مماثلة لما جرى في العراق مع الأحزاب الشيعية، وظهور انحيازات عابرة للطوائف في أوساط غالبية اللبنانيين لصالح فكرة دولة المواطنة وليس الطوائف، ونجاح الحراكات المدنية والنسوية لأول مرّة بصورة مؤثرة وفاعلة، والإجابة عن سؤال سلاح حزب الله، فيما أجاب المسيحيون عن سؤال استقلال الدولة والموقف من التحالف مع حزب الله، أعلنت أوساط سنّية استمرار دورها الفاعل في الحياة السياسية اللبنانية، وكانت مطالب "التجديد" قاسماً مشتركاً بين اللبنانيين، وهو ما يفسر الإطاحة برموز تنتمي إلى كافة الطوائف، في ظلّ تعبيرات عابرة للطوائف حول قضايا الوضع الاقتصادي والكهرباء وغلاء الأسعار.
وبالخلاصة، فإنّه لا يمكن تجاوز حقيقة أنّ نتائج الانتخابات فتحت الباب على مصراعيه أمام طوفان من التساؤلات التي كانت مطروحة قبل إجرائها حول لبنان ومستقبله، لا سيّما أنّ أزمات عميقة قادمة من بينها الرئاسات الـ3، إذ ستبدأ بأزمة انتخاب رئيس مجلس النواب، ثم رئيس الحكومة، ولاحقاً رئيس الجمهورية، وربما يتمّ التوصل إلى حلول توافقية تظهر نتائجها بالتغيير في رئاسة الحكومة والجمهورية، بتأثير أقلّ من الثنائي الشيعي "حزب الله وحركة أمل"، ويرجح استمرار رئاسة "نبيه بري" لمجلس النواب.
وبمعزل عن تلك الأزمات الدستورية والسياسية، فإنّ الرئاسات الـ3 ستكون أمام أزمة أوسع وأعمق بعدم قدرتها منفردة أو مجتمعة على اجتراح حلول للأزمات الاقتصادية وأزمات الخدمات وعلى رأسها أزمة الكهرباء، وهو ما يشدّ اهتمام اللبنانيين الذين سبق أن تجاوزوا انتماءاتهم الطائفية، وأطلقوا انتفاضة طالبت بإسقاط النخبة السياسية كلها بوصفها مسؤولة عمّا وصل إليه لبنان من دمار، وذلك عبر رهن مستقبله لسياسات المحاور والصراعات الدولية والإقليمية، وتلك حقيقة ربما أكدتها نتائج الانتخابات بأنّ حلّ أزمات لبنان ليس في انتخابات يفوز فيها هذا الطرف أو ذاك بأغلبية مقاعد المجلس النيابي، بل إنّ الحلّ في عواصم القرار الإقليمية، وتحديداً في الرياض وطهران، وهو ما يعني أنّ التوافق السعودي الإيراني ما زال شرطاً رئيساً لنجاح أيّ خلطة سياسية لبنانية.