عمر الرداد يكتب:

هل تعبت روسيا من الحرب في أوكرانيا؟

بعيداً عن الانحيازات العاطفية التي تذهب إلى رؤى أحادية لا ترى في نهاية الحرب الروسية ـ الأوكرانية إلا نصراً حاسماً لروسيا على أوكرانيا والغرب، أو هزيمة ساحقة لروسيا وجيوشها، فمن المؤكد أنّ مآلات هذه الحرب لن تكون لا بنصر حاسم ولا بهزيمة ساحقة لأيّ طرف، فهي ما تزال حرب "عضّ أصابع" بين رؤية روسية لم تنجح في تحقيق نصر خاطف، بل أصبحت تنكشف عوراتها العسكرية والاقتصادية وعلاقاتها الدبلوماسية، بتحولها إلى وضعية الدفاع في المناطق التي سيطرت عليها، وبالمقابل ما تزال رؤى غربية تتشارك في مقاربة "عدم السماح للرئيس بوتين بتحقيق انتصار في أوكرانيا"، وهو ما تتمّ ترجمته عسكرياً على الأرض بـ "إغراق روسيا في أوكرانيا، واستنزافها على كافة الصعد".

لكنّ المتابع لتطورات الخطاب الروسي يلحظ دون مواربة أنّ هناك تحولاً في المواقف والرسائل الروسية، ليس لأوكرانيا فقط، بل للجهات الداعمة لها أيضاً، تدلّ محمولات تلك المواقف والرسائل على أنّ روسيا تتطلع لبناء تفاهمات جديدة مع الغرب، وتحديداً مع الولايات المتحدة، وتعوّل على قمة مرتقبة محتملة بين الرئيسين؛ جو بايدن وفلاديمير بوتين، على هامش قمة الـ (20) التي ستنعقد الشهر القادم في أندونيسيا.

روسيا تتطلع لبناء تفاهمات جديدة مع الغرب، وتحديداً مع أمريكا، وتعوّل على قمة مرتقبة محتملة بين الرئيسين؛ بايدن وبوتين، على هامش قمة الـ (20) التي ستنعقد الشهر القادم في أندونيسيا

الاستراتيجية الروسية تقوم منذ بدء الحرب على استثمار سلة خيارات "عسكرية وسياسية واقتصادية"، وطرحها بوصفها أوراقاً، إلا أنّ الأسبوعين الأخيرين شهدا تطورات "لافتة" لا يمكن للمتابع لهذه الحرب إلّا أن يلحظ من خلالها أنّ هناك تغيراً في المواقف الروسية، تجنح للقبول بـ "صفقة" مع أمريكا حول أوكرانيا، تخرج بموجبها بـ "حفظ ماء الوجه"، ضمن حسابات داخلية وخارجية روسية، وهي حسابات معقدة، تبدو حجوم تأثيراتها الداخلية أكبر ممّا يعتقد، فالخط البياني لأوضاع القيادة الروسية يشهد تراجعاً مقاربة مع بداية الحرب.

رسائل روسيا في الأسبوعين الماضيين متضاربة، جاءت على وقع تعثر عملياتها في جبهات المواجهة في أوكرانيا من خاركوف شمالاً إلى خيرسون جنوباً، هذا التعثر المرتبط بمشاكل "عميقة ومتشابكة داخل القوات الروسية"، بالتزامن مع دعم عسكري وتسليحي غربي، أنتج ما يخطط له الغرب باستنزاف القوات الروسية.

فقد بدأت تلك الرسائل بحشد قوات روسية مع حليفتها بيلاروسيا على الحدود البيلاروسية مع أوكرانيا، وهي خطوة كان واضحاً أنّها غير جادة، وتستهدف تخفيف الضغط على القوات الروسية داخل أوكرانيا، وعلى خلفية اتهام روسيا لأوكرانيا بتفجير جسر القرم شنت القوات الروسية عبر صواريخ باليستية وطائرات إيرانية مسيّرة حملة استهدفت المدن الأوكرانية ومحطات توليد الكهرباء، وبالتزامن شنت روسيا حملة إعلامية حول معلومات مؤكدة لديها بنيّة أوكرانيا استخدام قنبلة "قذرة"، واتهام روسيا باستخدامها، وقد فتح هذا الملف "نافذة" لروسيا لإجراء اتصالات مع الغرب من خلال وزارات الدفاع، لم يعرف حتى اللحظة ما دار فيها، باستثناء ما قدّمته روايات روسية بأنّ وزير دفاعها حذّر الغرب من هذا السيناريو، وقد ردّ الغرب بأنّ قضية القنبلة "القذرة" ما هي سوى ألاعيب وتضليل روسي.

ولا شكّ أنّ ملف الطاقة، وتحديداً إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، تحوّل إلى سلاح روسي وورقة ضغط ضد أوروبا، وفي ظل مواقف أوروبية متباينة تجاه الملف، تم حسمها بقرار وقف استيراد الغاز من روسيا، حتى لو توقفت الحرب مع أوكرانيا، وكان تفجير خط الغاز الروسي "نوسترديم" الذي تتهم فيه موسكو بريطانيا بالوقوف وراء التفجير، العنوان الأبرز في هذا الملف، ومن المرجح أنّ خطط روسيا بإمكانية استثمار "فجوات" بين أمريكا وأوروبا حول استيراد الغاز الروسي لم تحقق نجاحات، وما زالت أوروبا مرتبطة بتحالف وثيق مع أمريكا، لا سيّما أنّ أمريكا أثبتت عدم قدرة الأوروبيين بدونها على خوض مواجهة عسكرية حقيقية مع روسيا.

ملف الطاقة تحوّل إلى سلاح روسي وورقة ضغط ضد أوروبا، وفي ظل مواقف أوروبية متباينة تجاه الملف، تم حسمها بقرار وقف استيراد الغاز من روسيا، حتى لو توقفت الحرب مع أوكرانيا

ورغم كل هذه التطورات، تغادر روسيا مجدداً كل تلك الملفات لتفتح ملفين جديدين؛ الأول: تصدير الحبوب الروسية -الأوكرانية من الموانئ الأوكرانية، وبصيغة تهديدية جديدة قد تلغي الاتفاق الذي تم إنجازه بين موسكو وكييف بوساطة تركية وبمشاركة من الأمم المتحدة حول تصدير الحبوب، على خلفية هجوم أوكراني على البحرية الروسية في البحر الأسود عبر طائرات مسيّرة، وبالتزامن يعلن وزير الخارجية الروسي "لافروف" الذي أعلن "سنكون دائماً مستعدين للاستماع إلى مقترحات شركائنا الغربيين التي تهدف إلى نزع التوتر...، ونؤيد أيّ مقترحات بحلول وسط تحقق التوازن بين الجميع"، وقد جاءت تصريحات الناطق الرسمي باسم الكرملين "بيسكوف" لتؤكد عدم ممانعة روسيا من لقاء قمّة بين الرئيسين؛ بوتين وبايدن، على هامش قمة الـ (20)، وأنّ استماع أمريكا لمخاوف روسيا قد يفتح حواراً أوسع بين موسكو وواشنطن.

ولعلّ السؤال المطروح اليوم، بعد كل هذه التطورات، هل وصلت كافة الأطراف إلى قناعات بضرورة وضع حدٍّ لهذه الحرب، أم أنّ التصريحات الروسية مجرد ذرٍّ للرماد بالعيون، وأنّها مجرد مناورة جديدة؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأصوات المنادية بوقف الحرب تتسع في روسيا وأوروبا وأمريكا، وربما تزداد بعد الانتخابات الأمريكية التي ستجري بعد أيام قليلة قادمة.