عمر الرداد يكتب:
انتفاضة إيران الجديدة ومرجعياتها بين المحلي والإقليمي والدولي
تشهد إيران انتفاضة جديدة منذ أكثر من أسبوعين، شملت كافة المحافظات الإيرانية، بما فيها المحسوبة "مذهبياً" على القيادة الإيرانية، على خلفية مقتل فتاة كردية "مهسا أميني" من قبل شرطة الأخلاق الإيرانية، بحجة مخالفتها تعليمات ارتداء الحجاب.
وكانت مظاهر استخدام العنف المتبادل قاسماً مشتركاً بين الأجهزة الأمنية للنظام، وفي مقدمتها الحرس الثوري الإيراني، وبعض القوى التي تتزعم هذه الانتفاضة، ومتظاهرين غاضبين، ردوا على الإجراءات العنيفة للحرس الثوري في تنفيذ الأوامر والتعليمات الحاسمة من قياداتهم بـ"سحق" الانتفاضة الجديدة، وهو الأسلوب الذي تستخدمه القيادة الإيرانية مع الانتفاضات والاحتجاجات، وبصورة أكثر عنفاً منذ انتفاضة عام 2017.
لا شك أنّ مقتل "مهسا" على يد الشرطة الإيرانية كان الشرارة التي أطلقت الانتفاضة الجديدة، في ظل سياقات مرجعيتها أنّ قضية "حقوق الإنسان ومنها حقوق المرأة" التي تختلط بين مفاهيم حديثة ومنظومة قيم يتبناها النظام لا تختلف كثيراً عن القيم التي تتبناها التيارات السلفية السنّية، خاصة الجهادية منها مثل؛ "داعش" وأخواتها، لكنّ توسع الانتفاضة وبسرعة غير معهودة، وانتقالها من طهران إلى المحافظات والمدن الإيرانية، أرسل رسالة تكشف حالة "الغليان" التي يعيشها الشارع الإيراني، على خلفية رفض سياسات القيادة الإيرانية الداخلية والخارجية والإقليمية، وتحميلها مسؤولية تداعيات الأزمات الاقتصادية المركّبة بما فيها من فساد في القيادة ومؤسساتها، والفقر في أوساط الشعوب الإيرانية، بما فيها المحسوبة "مذهبياً" على هذه القيادة.
ما لا تتحدث عنه إيران بشكل مباشر هو العلاقة بين تعثر مفاوضاتها النووية مع أمريكا وهذه الانتفاضة الجديدة، والقناعات الإيرانية بالقدرة المخابراتية الأمريكية على إثارة "قلاقل" تضعف القيادة الإيرانية
واضح أنّ القيادة الإيرانية لا تملك خيارات جديدة للتعامل مع الانتفاضات المتكررة، خارج مقاربات عناوينها: "قمع" أيّ انتفاضات مهما كانت باستخدام أقسى درجات العنف معها بحجة الخروج على النظام العام، وهو ما تمّت ترجمته مع الانتفاضة بقتل مئات المتظاهرين، مع التأكيد على السماح بحرية الاحتجاج والتظاهر "المنضبطة"، أمّا المقاربة الثانية، فهي ربط أيّ انتفاضة او احتجاجات مهما كان حجمها بقوى خارجية تستهدف "الأمن والرخاء الذي حققته الثورة للإيرانيين"، وهو الاتهام المتكرر الذي تطلب من إيران هذه المرة توجيه الاتهام لأحزاب "إيرانية كردية" تتخذ من شمال العراق مقرات لها في إقليم كردستان العراقي، وشن ضربات على مقارها عبر طائرات إيرانية مسيّرة، بالتزامن مع حملة إعلامية مكثفة بمفردات قاموس إيراني لا جديد فيه إلا المزيد من "شيطنة" أعداء الثورة، وهو الأمر الذي لم يُعره الإيرانيون أيّ اهتمام، بدلالة استمرار وتوسع الانتفاضة.
ما لا تتحدث عنه إيران بشكل مباشر هو العلاقة بين تعثر مفاوضاتها النووية مع أمريكا وهذه الانتفاضة الجديدة، والقناعات الإيرانية بالقدرة المخابراتية الأمريكية على إثارة "قلاقل" تضعف القيادة الإيرانية؛ بل تهدد بقاء النظام نفسه، وهو ما يفسّر "التصريحات" الإيرانية المتفائلة بإمكانية استئناف المفاوضات، دون الإشارة إلى التنازلات التي قدّمتها إيران، والتي تزامنت مع الإفراج عن معتقلين أمريكيين بوساطة دولة ثالثة.
وبالتزامن، فإنّ تطورات الأوضاع في "الساحات" التي تخوض فيها حروباً مباشرة أو بالوكالة، تشير إلى تهدئة جديدة من قبل إيران ووكلائها، ربما تشكل بمجموعها رسائل إيرانية ذات مغزى لواشنطن حول الأدوار التي يمكن أن تقوم بها في الإقليم على صعيد "حلحلة" الكثير من القضايا المعقدة المتشابكة والمتداخلة، ففي الوقت الذي يشهد فيه التدخل الإيراني في العراق ارتباكاً على خلفية تشكيل الحكومة العراقية يعكس "خلخلة" في السيطرة الإيرانية على العراق، هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على تراجع الدور الإيراني في سوريا، وتشكل الأجواء التي تشهدها المفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية، والتي تتسم بالتفاؤل والقبول من قبل حزب الله اللبناني، إشارات غير معزولة حول الدور الإيراني في لبنان، وبالتزامن فإنّ احتمالات تجديد الهدنة في اليمن مع جماعة الحوثي غير بعيدة هي الأخرى عن توجيهات القيادة الإيرانية.
انتفاضة "أميني" لا يتوقع أن ينتج عنها إسقاط النظام الإيراني، لكن كسابقاتها ستسهم في بناء تراكمي يؤسس لثورة عارمة قادمة، في حال استمرار سياسات القيادة الإيرانية بالوتائر والمقاربات نفسها
تدرك القيادة الإيرانية أنّها لن تكون بمنأى عن التحولات التي يشهدها العالم، وأنّ إيديولوجيتها المتشددة لن تستطيع الصمود أمام تلك التحولات، وأنّها تعيش سياقات تاريخية تشبه تلك السياقات التي عاشها الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، لكنّ الاتفاق النووي أصبح سلاحاً ذا حدين من وجهة نظر القيادة الإيرانية؛ فالتوصل إلى هذا الاتفاق سيفتح آفاقاً اقتصادية وسياسية لإيران، مقابل إعادة إنتاج إيران بمفاهيم جديدة، وهو ما يشكّل تحدياً إستراتيجياً لها، وعدم التوصل إلى اتفاق ستتواصل معه الانتفاضات والأزمات الاقتصادية؛ بل ستتفاقم وتصل إلى مستويات تهدد مستقبل النظام وإمكانيات بقائه، عبر انتفاضات متكررة ليس مضموناً إمكانية سيطرة الحرس الثوري عليها وقمعها؛ فالثورة التي خطفها "الآيات" عام 1979 كانت تواجه بقمع وتنكيل "السافاك" ومع ذلك أطاحت بالنظام حينها.
انتفاضة "أميني" لا يتوقع أن ينتج عنها إسقاط النظام الإيراني، لكن كسابقاتها ستسهم في بناء تراكمي يؤسس لثورة عارمة قادمة، في حال استمرار سياسات القيادة الإيرانية بالوتائر والمقاربات نفسها، وهو ما يرجح معه أن تقدم هذه القيادة على تنازلات غير مسبوقة، لن يتم الإعلان عنها في وثائق الاتفاق النووي الجديد المعلنة، ولن تتوقف عند "ضمانات أمنية" لإسرائيل، بل ستظهر ترجماتها في دور إيران ووكلائها في المنطقة.