عمر الرداد يكتب:
انتكاسة لن تعيق توقيع الاتفاق النووي مع طهران
رغم ما شهده الأسبوع الماضي ممّا يمكن وصفه بانتكاسه في إمكانية التوصل لإنجاز الاتفاق النووي الجديد بين واشنطن وطهران، إلا أنّ هذه الانتكاسة لا تنفي أنّ إيران وأمريكا تمارسان سياسة "عض الأصابع" والمناورة لتحقيق المزيد من المكاسب في اللحظات الأخيرة التي تسبق احتفال التوقيع، لا سيّما أنّ الإستراتيجية التي حكمت المفاوضات، التي يتم التعبير عنها على المذكرات المتبادلة بوساطة الأوروبيين، بجملة "نعم، ولكن" تؤكد الإدراك المشترك لدى طهران وواشنطن أنّ الاتفاق أصبح ضرورة لكليهما، فبالنسبة إلى طهران أصبح رفع العقوبات الاقتصادية هدفاً إستراتيجياً، واستقرت مقاربات واشنطن على الاتفاق بوصفه ورقة انتخابية، ويتوقع أن تسهم تدفقات النفط الإيراني بخفض أسعار المحروقات، هذا النفط الذي سيكون بديلاً للنفط الروسي للأسواق العالمية وخاصة الأوروبية.
ومن الواضح أنّ سياقات الاتفاق المزمع تسير عبر مراحل؛ أبرزها: أنّ واشنطن وطهران ترسمان خرائط خطابهما الإعلامي الخاص بالاتفاق لإقناع الرأي العام والخصوم في أمريكا وإيران، بأنّهما حققتا أهدافهما من الاتفاق، ولم تقدّما تنازلات ذات دلالة، هذا الخطاب مهم بالنسبة إلى طهران للإجابة عن تساؤلات أمام انتقادات تيارات متشددة وأخرى إصلاحية حول الفروق بين السياسات التفاوضية ونتائجها التي يقودها المتشددون حالياً ومفاوضات التيار الإصلاحي التي كان يقودها الإصلاحيون، وبالأهمية نفسها تخضع الإدارة الديمقراطية لتساؤلات فيما إذا حقق الاتفاق "منع" إيران من امتلاك سلاح نووي، وهل تضمن وقف تدخلات الحرس الثوري في الشرق الأوسط وزعزعة الاستقرار عبر الوكلاء؟ وهل تم توقيف برامج تطوير الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية؟ وهل هناك ضمانات في الاتفاق حول أوجه صرف الأموال الطائلة التي ستحصل عليها إيران من عوائد بيع النفط والإفراج عن ملياراتها؟
تحاول إيران تصدير رسالة مفادها أنّها قادرة على التعايش مع العقوبات، ومستعدة لسيناريو عدم توقيع اتفاق نووي جديد، وبالمقابل تصدر واشنطن رسالة موازية بأنّ لديها خيارات عديدة في حال عدم التوصل إلى اتفاق، والراجح أنّ الرسالة الأمريكية أكثر مصداقية من الرسالة الإيرانية، بدلالة "تراجع" القيادة الإيرانية عن بعض اشتراطاتها وخطوطها الحمراء، بما فيها الرفض الأمريكي لإزالة الحرس الثوري من قائمة العقوبات، ورفض تقديم تعهدات ملزمة حول "ديمومة" الاتفاق النووي وإمكانية إلغائه من قبل أيّ إدارة جديدة، كما حدث مع الإدارة الجمهورية بقيادة "ترامب".
إنّ القاسم المشترك بين واشنطن وطهران حول الاتفاق، وما يوصف بالانتكاسة الجديدة، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمرجعيات الشكوك العميقة المتبادلة بين الطرفين؛ إذ يشكل انعدام الثقة "مسكوتاً عنه معلناً" بينهما، عززته مخرجات مباحثات واشنطن مع القيادة الإسرائيلية التي تؤكد أنّ لتل أبيب الحق في اتخاذ إجراءات عسكرية ضد إيران، بما في ذلك مفاعلاتها النووية وميليشياتها في المنطقة، فيما تتطلع طهران لضمانات بعدم تراجع أيّ إدارة أمريكية عن الاتفاق، وتناور بخصوص استمرارية تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد اكتشاف يورانيوم مخصب في مواقع لم تعلن عنها إيران سابقاً، وهي مناورة لا يستبعد أن تقدّم طهران تنازلات بخصوصها، خاصة أنّها تؤكد دوماً على أنّها لا تتطلع لإنتاج سلاح نووي لأسباب دينية.
في المدى المنظور ستتواصل المفاوضات ما بين الإعلان عن انتكاسات ربما جديدة مرتبطة بتفاصيل دقيقة تعكس الثقة المفقودة من كلا الجانبين، على غرار عدم الموافقة في أوساط أمريكية على نقل اليورانيوم الإيراني المخصب إلى موسكو لشكوك بروسيا، وكاميرات المراقبة التابعة للوكالة الدولية، وآليات مراقبة صرف الأموال التي ستحصل عليها إيران بعد رفع العقوبات، وأدوار الحرس الثوري الإيراني داخل وخارج إيران، وستتواصل بالتزامن الرسائل المشفرة بين الجانبين بتوجيه ضربات لميليشيات إيرانية في سوريا والعراق، وربما تردّ إيران بضربات صاروخية "غير مؤثرة" لقواعد أمريكية أو عبر طائرات مسيّرة، إلى جانب استفزاز بناقلات النفط والتجارة الدولية في مياه الخليج العربي وبحر العرب وحتى البحر الأحمر، لإرسال رسالة بما يمكن أن تفعله في حال عدم التوصل إلى اتفاق نووي جديد.
الاتفاق المتوقع إبرامه قُبيل الحملة الانتخابية لانتخابات الكونغرس الأمريكية، وبحسابات الربح والخسارة، سيكون انتصاراً للإدارة الأمريكية، لكنّه انتصار تحت الاختبار بمدى التزام إيران ببنوده و"ملاحقه السرّية"، فيما ستكون القيادة الإيرانية أمام تحديات كبيرة؛ من بينها علاقاتها المستقبلية مع روسيا والصين، لا سيّما أنّ نفطها وغازها سيكونان بديلاً للنفط والغاز الروسيين، ومدى قدرتها على تبرير تنازلاتها أمام وكلائها ومؤيديها، وإمكانية ضبطهم، "مجرد إطلاق صواريخ من قبل الجهاد الإسلامي أو حزب الله ضد إسرائيل، أو إرسال طائرات مسيّرة من قبل الحوثيين ضد السعودية والإمارات" سيُعدّ خرقاً للاتفاق، كما أنّ كيفية ضبط أوجه صرف الأموال الإيرانية داخلياً في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تعيشها الشعوب الإيرانية، واحتمالات استمرار تقديم دعم مالي للميليشيات الإيرانية سيكون تحدياً تواجهه القيادة الإيرانية أمام الرأي العام الإيراني، وهو ما يعني أنّ تفاصيل الاتفاق "المعلنة والسرّية" ستخضع لرقابة ومتابعة مجهرية، ليس من قبل أمريكا فحسب؛ بل من قبل قوى ودول في المنطقة، وفي مقدمتها إسرائيل التي لديها شكوك عميقة بإمكانية التزام إيران بتعهداتها، ومن المؤكد أنّ اختراقاتها الاستخبارية "البشرية والفنية" في إيران ستوفر لها إمكانيات جمع معلومات دقيقة وسرّية من أوساط الحرس الثوري ومستويات قيادية أخرى في إيران.