عريب الرنتاوي يكتب:
إسرائيل تختنق بدماء شيرين أبو عاقلة
ستكتشف إسرائيل، عاجلاً وليس آجلاً، أن قرارها بتصفية الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة كان من أغبى القرارات التي تتخذها، فدماء الصحفية المحترفة، التي تسلقت جدران مخيم جنين، أنبتت موجة من الحزن والغضب، هيهات أن تخمد، وصورة إسرائيل كدولة عدوة لحرية الصحافة وقاتلة للصحفيين لم يعد بالإمكان حجبها أو إخفاؤها.
شيرين صحفية من بين كوكبة من الصحفيين والصحفيات الفلسطينيين الذين يغطون أخبار الضفة والقطاع والقدس، ويتتبعون فصول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الممتد لأكثر من مئة عام..
صحيح أن ثمة إجماعا على المزايا والسمات الشخصية التي تمتعت بها الراحلة الكبيرة، من دماثة خلق وتفانٍ بالعمل وحسن معشر وعفّة لسان، لكن السؤال عن السبب الذي جعل من استشهادها بمثابة شرارة أشعلت سهول الغضب والنقمة في صدور ملايين الفلسطينيين، يظل مع ذلك قائماً.
ليست الشهيدة الأولى، والمؤكد أنها لن تكون الأخيرة، فلفرط ما قدّم كتاب فلسطين وصحافيوها من تضحيات، وضعوا لاتحادهم منذ سنين طويلة شعاراً يختصر المشهد: ”بالدم نكتب لفلسطين“، لكن استشهاد شيرين أبو عاقلة سيدخل تاريخ كفاح الفلسطينيين بالكلمة والصورة والريشة والعدسة من أوسع أبوابه، وسيُنقش كـ“نقطة علام“ في هذا السجل الكفاحي المجيد.
التغطيات لمراسم التشييع المهيب الذي حظيت به الشهيدة – الشاهدة، رسمياً وشعبياً، وطنياً وأممياً، أجمعت على القول بأننا أمام حدث غير مسبوق في تاريخ الأراضي المحتلة، فلم يحظ زعيم سياسي أو كاتب ومثقف بما حظيت به شيرين في مشوارها الأخير من الحياة إلى الموت، تلكم قضية تتخطى شيرين بمواصفاتها الشخصية، وتستوجب دراسةً للحظة الشهادة، وكيف وقعت على الفلسطينيين، وكيف شكّلت ردود أفعالهم على الجريمة النكراء.
هي لحظة القهر التي يعيشها الفلسطيني تحت احتلال مديد ومرير، وهي لحظة اليأس من كل المبادرات والتحركات، وهي لحظة الإحساس الأعمق بأن أرضهم وحقوقهم ومقدساتهم باتت في ”المتر الأخير“، قبل أن تبتلعها آلة الضم والتهويد والأسرلة والتشريد والإبعاد.. هي لحظة الغضب الممزوجة بالثورة والانتفاض والتمرد والتضحية، كما تجلت في شوارع القدس وميادين الشيخ جراح وسلوان، وفي جنين المحافظة والمدينة والمخيم بخاصة.
هي لحظة الغضب النابعة من عميق الإدراك بأن على الشعب الفلسطيني، وأجياله الشابة على وجه الخصوص، أن ينتزع زمام مبادرته بنفسه، ومن بين براثن العجز والشيخوخة والانقسام التي ميزت نظامهم السياسي وحركتهم الوطنية، ومن غياهب الترك والنسيان والتواطؤ التي آلت إليها مواقف أشقائهم، ومن أنياب النفاق والمعايير المزدوجة التي تميز السلوك الأممي حيال قضيتهم..
أتت روح شيرين أبو عاقلة لتثير في صدورهم جميع هذه المشاعر المختلطة والمتداخلة، فتطلق مارد التحدي والمقاومة والانتفاض. ليس صدفة أن تقام لها صلاة الغائب في المساجد ترحماً لروحها، وأن تُقرع لها أجراس جميع الكنائس على وقع التشييع المهيب لجثمانها، فخلف نعش ابنة القدس وفلسطين سار الفلسطينيون جميعاً، متناسين، ولو لأيام وساعات، خلافاتهم وانقساماتهم.
في التاريخ، تقع الأحداث والمنعطفات الكبرى عند لحظة اجتماع ”عامل التفجير“ بالبيئة المهيأة للانفجار.. استشهاد شيرين لعب دور ”الصاعق“ الذي فجّر القنبلة الموقوتة في وجه الاحتلال المدجج بالسلاح والكراهية والعنصرية، مضافاً إليها جميعها قدرٌ لا بأس به من الغباء.. فلو أن صاحب القرار بحجب صوت الحق والحقيقة أدرك عواقبه الخطيرة، لما استسهل الضغط على الزناد