عريب الرنتاوي يكتب:
"فتوى لاهاي".. ما المتوقع؟ وماذا بعدها؟
بنبرة ملؤها الفوقية والاستعلاء، يتحدث المحلل الإسرائيلي شلومو غانور لتلفزيون "بي بي سي" عن "النصر" الذي حققته إسرائيل في الاجتماع الأخير للجمعية العامة قائلاً: قرار طلب "الفتوى" من محكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال الإسرائيلي لأراضي 67 ومترتباته، لم يحظ إلا بموافقة 87 دولة عربية وإسلامية وعدم انحياز ولاتينية..
دول "التنوير" عارضت القرار أو امتنعت عن التصويت عليه، يقصد بذلك الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبية، فلمواقف هذه الدول قيمة أخلاقية من وجهة نظره، تفوق القيمة القانونية للقرار ومواقف الدول التي صوتت لصالحه.. العالم "فسطاطان"، فسطاط النور وفسطاط الظلام...هكذا تكلم الظلاميون من قبل، وهكذا يتكلم العنصريون من بعد.
لكن العنصرية ليست وحدها ما يميز تصريحات غانور وأمثاله، بل "الكذب" كذلك، فهو ديدنهم.. فالامتناع عن التصويت لا يعني بالضرورة رفض القرار ومنطوقه، بل ربما جاء تحت ضغوط معينة، ولحسابات لا صلة لها بالموضوع قيد البحث،
محكمة العدل الدولية ستنتصر للشرعة والقانون الدوليين، وستصدر عنها "فتوى" استشارية، تُرضي الفلسطينيين وتُغضب المحتلين.
وفي المعلومات، أن واشنطن فعلت بالأمس، ما فعلته أمس الأول: مارست أشد الضغوط على الدول لرفض القرار الفلسطيني والامتناع عن التصويت عليه، مثلما مارست من قبل، ضغوطاً أشد، لدفع هذه الدول للتنديد بالاحتلال الروسي لأوكرانيا..
الاحتلال الروسي قبيح ويستلزم استنفار العالم لإدانته، والاحتلال الإسرائيلي الأقدم لا يستحق القدر ذاته من الاستنفار، بل ولا يستوجب التنديد والإدانة، وفي الحالتين، تقف واشنطن بالمرصاد لعشرات الدول في المنتظم الدولي، حتى لا تخرج على "نظرية القطيع".. أيُّ معايير مزدوجة، ولا أخلاقية، هذه؟
على أي حال، لقد مرّ القرار بأغلبية مريحة، والكرة الآن في ملعب محكمة العدل الدولية، لقد جاء الفلسطينيون متأخرين كثيراً، ولكنهم وصلوا في نهاية المطاف إلى لاهاي.. والقرار كما يتضح من منطوقه، يدور حول محاور أربعة:
الأول، الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقدس والقطاع، احتلال دائم وليس مؤقتاً، إسرائيل تخاطب المجتمع الدولي على أنه مؤقت، وتعمل على الأرض على أنه دائم..
والثاني، ويتعلق بالتغيير السكاني القسري، أو ما يمكن تسميته بسياسة التطهير العرقي المتبعة في المناطق المحتلة، وبالذات في مدينة القدس وأحيائها العربية..
والثالث، ويتصل بالاستيطان وتغيير الأمر الواقع بالقوة الاحتلالية، وهي مسألة ترقى إلى مستوى جريمة الحرب، وبرنامج حكومة اليمين الأكثر تطرفاً، رسم خطة غير مسبوقة للزحف الاستيطاني على بقايا الضفة الغربية المحتلة، وتسريع تهويد القدس وأسرلتها..
أما الرابع؛ فيتعلق بالتدابير والممارسات التمييزية ضد السكان الفلسطينيين، باعتبارها ضرباً من التمييز العنصري وعملاً من أعمال "الأبارتايد".
لا يساورنا الشك، بأن محكمة العدل الدولية ستنتصر للشرعة والقانون الدوليين، وستصدر عنها "فتوى" استشارية، تُرضي الفلسطينيين وتُغضب المحتلين.. وربما لهذا السبب بالذات، نرى قادة إسرائيل، يهددون ويتوعدون، حتى أن البعض من أكثرهم تطرفاً، لم يتورعوا عن المطالبة بمحاسبة قادة السلطة والمسؤولين عن إحالة القرار إلى الجمعية العامة، بوصفهم يمارسون شكلاً من أشكال "الإرهاب الدبلوماسي".
للقرار أهمية كبيرة في توقيته ومضمونه.. من حيث المضمون، جاء بعد 24 ساعة من تشكيل أكثر حكومات إسرائيل يمينية وفاشية.. ومن حيث المضمون، فهو يجرد إسرائيل من أي ادعاءات أخلاقية وقيَمية زائفة، ويرسي الأساس القانوني لمطاردة ساستها وجنرالاتها ومستوطنيها أمام المحاكم الدولية والوطنية في العالم، وسيكون سلاحاً فعّالاً بيد دعاة المقاطعة والمنظمات الحقوقية الدولية التي تنتصر لشعب فلسطين وقضيته العادلة.
لكن القرار لن يُعطي أكله المطلوب تلقائيًّا، فلا بد من تخصيص فرق للمتابعة وتحشيد جيشٍ من الحقوقيين الأكْفاء، الذي يعكفون على مطاردة قادة إسرائيل في حِلهم وترحالهم، ورفع قضايا للقبض عليهم ومحاكمتهم كمجرمي حرب وخارجين على القانون، وتلكم مسؤولية السلطة الفلسطينية في المقام الأول، وليس الأخير، فبمقدور المجتمع المدني الفلسطيني وحكومات ومنظمات عربية وصديقة كذلك، أن تفعل شيئاً مماثلاً.. مثل هذه الإستراتيجية، يمكنها أن تجعل حياة الإسرائيليين، جحيماً لا يطاق.