محمد خلفان يكتب:
النفط الخليجي والغاز الروسي.. وقوة الندرة
تراجع حماسة الدول الأوروبية في تطبيق العقوبات الاقتصادية على روسيا التي تصاعدت مع بداية غزوها لأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، بعد أن أيقنت أن روسيا ستلجأ لإيقاف تصدير الغاز إلى الدول الأوروبية كإجراء دفاعي، ذكّرنا بتغير الموقف الدولي إثر قرار الدول الخليجية، خلال حرب أكتوبر 1973، منع تصدير النفط إلى الدول المساندة للعدوان الإسرائيلي على العرب. ولا يزال العالم يتذكر قولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشهيرة “النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي”.
إثر تطبيق القرار تغير الموقف الدولي من الحرب، واضطرت الدول الغربية لممارسة الضغط على إسرائيل وإجبارها على وقف الحرب والتفاوض على إرجاع الأراضي العربية التي كانت تحتلها.
كانت هي المرة الأولى التي يستخدم فيها سلاح النفط. حيث اعتبرت الخطوة سابقة تاريخية حفظت للشيخ زايد مقولته الخالدة، التي أصبحت مقولة استراتيجية تدرس في الأكاديميات. وأعتقد أنها المرة الوحيدة التي نجح فيها العرب في استخدام “قوة سلعة” يمتلكونها تتصف بالندرة، ومازالت تحظى بمكانة استراتيجية عالمية، رغم كل المحاولات، ليس فقط للتقليل من استخدامها، بل الاستغناء عنها بالكامل، كي لا يقع الغرب تحت رحمة العرب مرة ثانية. واليوم، بعد مرور نصف قرن، يتأكد فشل كل المحاولات المبذولة للاستغناء عن النفط، وثبت أن الحديث في هذا الاتجاه مازال مبكرا جدا وهذا ما برهنت عليه الأزمة الأوكرانية بوضوح.
روسيا التي أقلقت الأوروبيين تتصرف بهدوء وطمأنينة تجاه موقفهم منها، ورغم تهديداتهم بتطبيق العقوبات الاقتصادية عليها إذا ما استمرت في حربها ضد أوكرانيا لم تتراجع، وتشير الدلائل إلى أن خطتها المتمثلة بقطع الغاز تسير نحو تحقيق الغاية منها وهي: إيقاف تزويد أوكرانيا بالأسلحة الغربية، وإقناع الرئيس الأوكراني بتنفيذ المطالب الروسية.
الدول الخليجية تميل بطبعها إلى التركيز على البعد الإنساني، حتى في الأزمات السياسية، فهي تبتعد غالبا عن التفكير بمنطق البراغماتية السياسية وفق النهج الغربي
عامل “الندرة” في أي سلعة يعتبر قوة مؤثرة، عادة ما تستخدمه الدول، وحتى الأشخاص، خلال المفاوضات لتحقيق أهدافهم السياسية، وهذا حق مشروع. والبترول يُصنف ضمن هذه النوعية من السلع التي تمتلك “قوة الندرة” والتي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، خاصة في ظل حالة التفاعل والنشاط الدبلوماسي التي تقوم بها في الملفات الدولية، وبعد أن أثبتت الأزمة الأوكرانية أن مسألة الاستغناء عن النفط والغاز ليست إلا “وهما” وأمنيات، بل زاد سعره بأكثر من الضعف عما كان عليه قبل الأزمة، وتحسنت بذلك عوائد الدول النفطية.
تسبب موقف دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية، المتمثل في الإصرار على الالتزام بالحصص المقررة لهما ضمن منظمة أوبك+، في اتخاذ خطوات مؤثرة تتعلق بملفات إقليمية مهمة، منها مراجعة التوقيع على الاتفاقية النووية بين الغرب وإيران، بعد أن كان في لحظاته النهائية. كما أدى الموقف الخليجي إلى استدارة أميركية تجاه دول المنطقة بالكامل، بانت بعض تفاصيلها في الإعلان عن قمة مرتقبة بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي جو بايدن خلال يونيو القادم، بعد أن كانت واشنطن تتجاهل المطالب الخليجية المتعلقة باستقرار وأمن المنطقة.
تميل الدول الخليجية بطبعها إلى التركيز على البعد الإنساني، حتى في الأزمات السياسية، فهي تبتعد غالبا عن التفكير بمنطق البراغماتية السياسية وفق النهج الغربي. وقد كشفت مواقف كثيرة لهذه الدول خلال الأزمات أنها لا “تخلط” بين خلافاتها مع حكومات، سواء في المنطقة أو غيرها، وبين ما يؤثر على حياة الشعوب. ولذلك فإن مسألة توظيف سلعة أساسية تمس حياة الإنسان وفق قانون “الندرة” أمر مستبعد، مع أن “قوة” هذه السلعة لا تقل في تأثيرها عن تأثير القوة الناعمة والقوة الخشنة.
الحديث المتداول هذه الأيام عن اختلافات أوروبية حول تطبيق العقوبات على روسيا، يتفاوت وفق درجة اعتماد هذه الدول على الغاز والنفط الروسي، بل إن الأمر لا يقتصر على الطاقة فقط، فهناك سلعة ربما لو جرى تفعيلها بشكل واسع يتفجر غضب دولي على الغرب، وهي “تجويع” العالم بمنع تصدير القمح، والتي تعتبر مسألة خطيرة تترتب عليها تداعيات تطال الدول التي تطبق العقوبات بشكل عام.
لقد أجاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توظيف “قوة الندرة” في خدمة السياسة الخارجية لبلاده. فهل نستطيع، كعرب عموما وخليجيين خصوصا، أن نتعلم من الدرس الروسي؟