هاني مسهور يكتب:
عدن بين الأنجلوساكسون والحضارمة
عدن ليست مجرد مدينة ذات موقع جغرافي فريد، بل هي أعمق من ذلك بكثير. فالمدينة التي ذكرت في الكتاب المقدس الأقدم هي صنيعة التاريخ البشري بكل ما تعاقبت عليه الأمم والشعوب، فصنعت خصائص المدينة وتركيبتها المتفردة.
ويصف أمين الريحاني عدن بأنها تتطابق مع مدينة صور اللبنانية في مقاربة بديعة بين الفينيقين والحضارمة، وكلاهما أمة اشتهرت بالترحال واشتهرتا بالتأثير الحضاري الطاغي على مواطن نزولهما.
أحكمت بريطانيا قبضتها على مدينة عدن عام 1839، ومع ذلك لم تغير المدينة من طباعها، وظلت كما كانت وما فطرت عليه مزيج من شعوب وأمم انصهرت في تكوين مجتمعي له فلسفة تعايش خاصة، كانت قد جاءت من عمق التاريخ المكون لطبيعة تطور الإنسان العربي في جنوب جزيرة العرب. فمن المؤكد بحسب المصادر العلمية التاريخية، أن طلائع الهجرات الحضرمية في القرن الثالث الهجري كانت هي بداية للظهور الحضرمي والتأثير العميق الناشئ في عدن.
التكوين المذهبي هو نواة التشكيل لمدينة تعايشت مع الأديان والثقافات والطبائع المتعددة غير أنها امتلكت خاصيتها الجينية بهذا الامتزاج الذي عرف عبر الأزمنة القدرة في تذويب كل ما يأتي للمدينة من أفكار متعددة احتوتها الأجناس التي تشكلت في المدينة، ما يدفع للتعايش لم يكن من الفراغ بل من الصفاء الروحي الذي طغى بما شكله الحضارمة من عدن إلى معقلهم المذهبي في مدينة تريم.
هذا التكوين الأول كان وما زال وسيظل الباعث المجدد للهوية الحضرمية داخل عدن، على اعتبارها الجائزة الأثمن لما قدمته الحضارة العربية في مفهوم التعايش. عندما نزل الكابتن «ستافورد هاينز» عدن مفاوضاً لسلطان لحج عام 1837 - أي قبل احتلالها بعامين- كان يؤمن بأن عليه مهمة امتلاك بريطانيا للمدينة، فهي بذلك تكون الإمبراطورية البريطانية قد تمكنت من إخضاع العالم القديم آنذاك للنفوذ الأنجلوساكسوني، وهو ما حدث فعلياً بعد مقاومة عرب عدن كما تصفهم الوثائق البريطانية التاريخية.
البريطانيون أنفسهم ذابوا وانصهروا كما غيرهم من الشعوب، فلا الهنود ولا الآسيويين أو الأفارقة استطاعوا تغيير الجينات العَدنية. المطامع الزيْدية لإخضاع عدن كانت المحفز المستدام لاكتساب القوة، فكلما شنت القوى القبلية الزيدية حملة عسكرية على عدن، أُفشلت بفضل استدعاءات التاريخ الأول.
فالعقيدة المذهبية الشافعية كانت السياج المتين، الذي أحاط بالمدينة، فقبائل الجنوب العربي الممتدة من المهرة وحتى باب المندب كانت مادة الصلابة التي نجحت في كل مرة من التصدي للغزوات اليمنية حتى مع ما فرضته بريطانيا من انتداب على سلطنات الجنوب بقيّ ذلك الصراع في سياقه التاريخي ولم يتأثر بحال من الأحوال.
في النصف الثاني من القرن العشرين كان التحول الدراماتيكي الأهم مع تصاعد حركة التحرر الوطنية، وتبني الزعيم المصري جمال عبدالناصر للقوى المناهضة للاستعمار، واستشعار مصر أهمية استقلال عدن بعد العدوان الثلاثي في عام 1956، وهي نقطة التحول التي غيرت شكل الشرق الأوسط، بعدما استطاع المصريون توفير الدعم السياسي والعسكري للجنوب العربي، الذي انتزع استقلاله الوطني في 30 نوفمبر 1967 ممهداً الطريق لاستقلال منطقة الخليج العربي ومحققاً للأمن القومي العربي بتأمين السواحل من بحر العرب وعبوراً في خليج عدن ووصولاً إلى قناة السويس.
غادر الإنجليز عدن وتركوا درة التاج الإمبراطورية محتفظة بكامل هويتها، بل إنها امتلكت سيادتها الوطنية محتفظة بذات الارتباط الأول مع تريم الحضرمية، ذاك الامتداد التاريخي هو الرابط الروحي الذي صنع عدن بتعايشها وصفتها. القدرة على التعايش، وصهر الثقافات من خصائص عدن وأسرارها، التي لم تُكتشف بعد، فلقد انشغلت المدينة وأهلها بمطاردة لقمة العيش وتحول أمنها إلى خوف بعد الزحف اليمني عليها.