مصطفى النعمان يكتب:
توالد المؤسسات وصفة خراب
مثير للقلق الارتباك الذي تدار به الأوضاع على الأرض في الرقعة الجغرافية البعيدة عن سيطرة الحوثيين.
فبعد مرور أكثر من ستين يوماً من تولي مجلس القيادة الرئاسي مقاليد السلطة في 7 أبريل (نيسان) 2022 نشاهد تسارعاً محيراً لشل مؤسسات قائمة واستنساخ أخرى بديلة، وهو امتداد لما بدأ في 2011 بانقسام القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بلوغاً إلى انهيار المؤسسات العامة وصولاً إلى اعتقال الرئيس عبد ربه منصور هادي في يناير (كانون الثاني) 2015، لتستكمل جماعة أنصار الله الحوثية مسار استيلائها على السلطة الذي بدأ في 21 سبتمبر (أيلول) 2014 بالتوقيع (اتفاق السلم والشراكة الوطنية).
وهي الوثيقة التي هزت الدولة اليمنية وبعدها استكملت قواتها السيطرة على العاصمة بداية ثم تحكمت بالمصالح الحكومية من دون أن تمتلك كوادرها التجربة الكافية لإدارتها.
ثم جاءت الحرب في 26 مارس (آذار) 2015 لتفسح المجال لمزيد من التفسخ المؤسسي والمجتمعي، وما نراه ويعيشه البلد حالياً هو انعكاس طبيعي لكل التراكمات السلبية التي سبقت ثم استمرت مع وصول الرئيس عبد ربه منصور هادي للحكم في فبراير (شباط) 2012، ممهدة لتفكك البنية الاجتماعية وصولاً إلى التشظي داخل القبيلة والمجتمع المدني ثم الأسرة الواحدة.
وإن ما يزيد من الفوضى الحالية وتسارع الانهيارات هو ما نشاهده من إنتاج غير مكتمل النمو لمؤسسات بديلاً من مؤسسات قائمة، مع الإقرار بعجزها.
ويتصور كثيرون أن الكيانات المستحدثة من الفراغ ستسهم في وقف الانزلاق الحر وأنها ستساعد في إحداث نمو اقتصادي أو أنها ستحقق استقراراً قانونياً، بينما الحقيقة المزعجة التي لا يجب إخفاؤها، ويعلمها الجميع، هي أنها ستكون معولاً لاستكمال هدم ما تبقى من الهياكل ما لم تتضح مهامها وعدم تداخل صلاحياتها أو تجاوزها مع مؤسسات قائمة.
وتستوجب المسؤولية الوطنية والدستورية تدارك الأمر بإجراءات حاسمة قبل استفحاله ما لم يكن المقصود هو رغبة خفية في ضمان مزيد من تمزيق البلد إلى فسيفساء لا يتحكم أحد في أي من مربعاتها.
إن هذه الإجراءات الضرورية والحاسمة تستدعي بداية وجود قيادة متماسكة وممسكة بمقاليد السلطات وقادرة على اتخاذ القرارات من دون تردد ومداراة ودونما استقرار في المنطقة الرمادية، وقبل وبعد ذلك أن تحظى بقبول الناس واستعدادهم لمساندتها.
ولما كان هذا غير ممكن واقعياً نظراً إلى تعدد الرؤوس الحاكمة القادرة على العرقلة من دون امتلاك بدائل عملية ضرورية، فمن المتوقع أن يواصل البلد انزلاقه من دون كوابح نحو مزيد من الفوضى التي سينتجها الفقر والمرض واليأس والحنق والغضب.
إني أرى أنه من المهم إمعان الخيال للبحث في طرق مبتكرة لتجاوز العجز البنيوي الفاضح في مؤسسة الرئاسة والحكومة والمؤسسة التشريعية.
ومن المؤسف أن الوثيقة التي تسربت عن أعمال اللجنة القانونية المكلفة إعداد قوانين لتسيير أعمال مجلس القيادة الرئاسي وهيئة التشاور والمصالحة واللجنة الاقتصادية جاءت تعبيراً عن تدني الوعي السياسي والوطني لدى عديد من أعضائها، فخرجت مخلوقاً مشوهاً تظهر أن من صاغوها لا يدركون حجم الإشكالات التي تواجهها البلاد.
وفي بعض اللحظات كان السرد الأدبي هو السائد في صياغة بنودها، مبتعداً عن التفاصيل القانونية الواضحة التي تحدد المسؤوليات والواجبات من دون مجاملة وبغير حديث ممجوج عن الأوضاع الاستثنائية، كما لا يكفي القول إن المسودة قابلة للتعديل فهذا ليس مبرراً كافياً ولا معقولاً ولا مقبولاً.
ليس خافياً عن العيان أن رئاسة الدولة الجماعية الحالية عاجزة، حتى الآن، عن التوصل إلى رؤية وطنية جامعة.
وكما قلت فإن بعض أعضائها يمتلك من مصادر القوة ما يسمح له بإيقاف أي مخطط لا ينسجم مع مشروعه الشخصي ومشروع التيار السياسي الذي يمثله أو القوة المسلحة التي يشرف عليها.
وما نشهده اليوم من ارتباك وفوضى عارمة هو في واقع الأمر تهيئة غير منضبطة للدخول في مسارات تيه ستتجاوز بآثارها الفشل المتوقع لمشاريع الانفصال ولمساعي إنهاء الانقلاب، وسيؤدي ذلك إلى تشظي البلاد كاملة في اتجاهات لا يمكن لأحد التنبؤ بها وستخرج عن سيطرة الكل.
الأسبوع الماضي أعلن قرار بتشكيل لجنة عسكرية برئاسة وزير الدفاع السابق اللواء هيثم قاسم طاهر أعطى صورة سلبية إضافية حول أسلوب العمل داخل مجلس القيادة الرئاسي.
فعدد أفراد اللجنة يناهز الستين وهو رقم يشير إلى أن الاختيار تم بالتراضي وليس بحسب الكفاءات والخبرة والأسبقية.
وإذا كان المطلوب نظرياً من اللجنة العسكرية إنجاز مشروع إعادة هيكلة القوات المسلحة ودمج الكيانات المبعثرة التي تعمل في المناطق الجغرافية البعيدة عن مناطق الحوثيين، فمن المؤكد أن اللجنة ستعجز عن ذلك.
وإذا ما تم لها ذلك فسيصبح بذرة تدمير للعقيدة العسكرية النظامية، لأنه سيجعل القوات المسلحة تعمل بأكثر من عقيدة وسيظل ولاء أفرادها مرتبطاً بقياداتهم التي تمثلهم في المجلس وعلى الأرض.
وفي هذا المجال فلقد كان من الأجدر والأجدى والأهم تشكيل غرفة عمليات مشتركة تكون مهمتها الوحيدة تثبيت الأمن والاستقرار في المحافظات الجنوبية، وجعلها نموذجاً يمكن أن يعيد أي قدر ولو ضئيل من ثقة الناس بالحكام الجدد.
إن ما نراه اليوم هو انشغال كثيرين في ترتيب أوضاع مالية ووظيفية لأغراض شخصية وليس بهدف الصالح العام، غير مدركين حجم الاهتزازات التي تحدث تحت السطح المتشقق الذي يقفون عليه، والسرعة الفائقة لحركتها وقرب الانفجار الذي سيحدث نتيجة الارتطام، وسيكون البركان الذي يحصد الجميع، مخلفاً كماً هائلاً من الضحايا ومحدثاً دماراً هائلاً غير مسبوق.
في الأخير ، يجب التأكيد أن الأوضاع في عدن، باعتبارها محط الأنظار ومركز السلطة الجديدة، لم تتحسن خلال الأيام الستين الماضية، بل زادت متاعب الناس وطال انتظارهم لتحقيق الوعود الكاذبة المكررة ولم يشعر الناس بأي فعل إيجابي يبعث أملاً عندهم.
ولا يكفي أن يقول أعضاء مجلس القيادة الرئاسي إنهم متوحدون في خصومتهم للحوثيين، لأنها قضية لا تشكل عاملاً ضاغطاً عليهم كلهم لكي يوحدوا مواقفهم تجاه بقية القضايا الوطنية.
وإذا استمرت إدارة المجلس بطيئة غير حاسمة ولا حازمة في معالجة الأوضاع الكارثية التي يعيشها المواطنون، فسيكون ذلك إيذاناً بعرقلة مساعي التوجه نحو مشاورات سياسية تفضي إلى وقف الحرب نهائياً، وهي المهمة الأولى التي كلفهم بها بيان السابع من أبريل 2022.
لا تتم معالجة القضايا الوطنية الكبرى عبر تكثيف اللقاءات غير المهمة واستنزاف الوقت في النشاط الإعلامي أو الاجتماعات غير ذات المردود والتعيينات غير الضرورية، وإنما بالمواجهة المباشرة والتمسك بالدستور الحالي والخروج من مربع التردد.. وإلا فالخشية أن يتغلب عند الناس الحنين إلى الماضي مرة أخرى.