هزرشى بن جلول يكتب:
الوحدة العربية.. الممكن والمستحيل
يسود اليوم فى المنطقة العربية خطاب انهزامى عدمى متشائم يعتقد أن فكرة الوحدة والتضامن العربى بات مجرد أوهام وأضغاث أحلام، وطوبى وترف فكرى ولن يتحقق ذلك حتى يلج الجمل فى سم الخياط، وأن الوطن العربى مجرد فسيفساء من جماعات وأقليات لا رابط بينها. وعلى أساس هذا السراب الأيديولوجى أبّن دعاته العروبة، وأعلنوا عن نهاية القومية العربية وتبدد الحلم العربى. وقد ربطوا ذلك بضعف الاندماج الاجتماعى فى أغلب الأقطار العربية بسبب الاحتراب الطائفى والصراع الاثنى والمذهبى الذى أصبح يهدد النسيج الاجتماعى، واتساع دائرة الاتجاهات الإقليمية والانعزالية، التى كان من نتائجها تجزئة بعض البلدان عمليا كالعراق، والسودان، وليبيا واليمن. يضاف إلى ذلك الحرب المعلنة على الهوية العربية، وموقف القوى الغربية والصهيونية ومشاريعها الرافضة لفكرة الوحدة العربية. وإذا كان سؤال الوحدة قد طرح فى مواجهة مفاعيل التجزئة التى كرستها معاهدة سايكس ــ بيكو ووعد بلفور فى مواجهة الكيان الصهيونى الذى فصل بين مشرق الأمة ومغربها، ورعاها من خلال تشجيع الأقليات الدينية والعرقية، وإذا كان تحقيق الوحدة العربية يمر عبر تحرير فلسطين، فإن «إسرائيل» لم تصبح عدوا بالنسبة لبعض الأنظمة العربية بعد انخراطها فى مشروع التطبيع السياسى والثقافى الإعلامى والفنى مع الكيان الصهيونى.
ولعل الأسوأ من كل ذلك غياب مشروع قومى يضع فى سلم أولوياته تحقيق الوحدة، وتشجيع التعاون كما كان خلال فترة الخمسينات والستينيات من خلال حركة البعث والناصرية. كما أن أغلب الوحدات الإقليمية التى تشكلت لمواجهة أخطار خارجية أصبحت معطلة. فقد تجمد الاتحاد المغاربى بسبب أزمة الصحراء والحدود المغلقة، وانهار مجلس التعاون العربى بسبب حرب الخليج الثانية، وتعطل مجلس التعاون الخليجى بسبب الأزمة السعودية ــ القطرية. كما تشظت التنظيمات القومية على المستوى القومى وداخل القطر الواحد. وقد ارتبط ذلك بغياب الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، وشيوع الاستبداد، والإقصاء بتعلة وحدة المعركة والتركيز على الديمقراطية الاجتماعية بدل السياسية.
***
فى المقابل يعتقد دعاة الخطاب الثورى المتفائل أن التضامن والتوحيد العربى بات مشروعا مستقبليا لاعتماده على وحدة المنظومة الثقافية والدينية واللغوية، ومعركة المصير الواحد، وأن خطورة التحديات الداخلية والخارجية التى تواجهها الأمة منذ مدة كفيلة بدفع القوى الحية المؤمنة بالمشروع النهضوى إلى الضغط على صانع القرار السياسى العربى لينخرط فى مشروع التضامن والتوحيد. ومن المبررات التى يطرحها هذا الطرف أن مواجهة تلك التحديات ووقف انهيار الدولة القطرية، واتساع دائرة التدخلات الأجنبية والقواعد العسكرية وارتهان القرار السياسى والاقتصادى يمر حتما عبر تبنى صيغ متعددة من التعاون والتضامن، وتشبيك العلاقات السياسية والاقتصادية، وتجاوز الصراعات العربية ــ العربية ــ ووضع المصلحة القومية فوق كل الاعتبارات. يضاف إلى ذلك التجارب الوحدوية السابقة التى يختزنها الشعور الجمعى للعرب خلال مختلف الحقب التاريخية، والذى حولهم من مجرد قبائل إلى رقم فاعل فى معادلة الصراع الدولى. فى السياق ذاته فإن الشعور الوحدوى الكامن فى قاع الذات العربية ينتظر الفرصة الذهبية التاريخية للتعبير عن وجوده. يعكس ذلك حجم التفاعل مع الأقطار العربية التى تتعرض للاحتلال والحروب الأهلية، وتترجمه مستويات التضامن مع القضية الفلسطينية من خلال حملات التضامن والتطوع والمسيرات المؤيدة، ورفض كل أشكال التطبيع. وقد شكلت لحظة حركات التغيير (الربيع العربي) لحظة عربية بامتياز قبل أن يتم التآمر ضدها عبر تشجيع حركات الثورة المضادة. كما تعكس الاستطلاعات المختلفة حول اتجاهات الرأى العام العربى نحو مسألة الوحدة وانحياز الشارع العربى إلى الإجراءات والسياسات ذات المنحى الوحدوى حتمية هذا المسار. فقد أشار تحليل نتائج الدراسة الميدانية التى نشرها مركز دراسات الوحدة العربية إلى أن تمسك المستجيبين بالهوية العربية المشتركة قد وصل إلى 82%. كما أبدى 55% قبولهم إقامة وحدة اندماجية كاملة. وأيد 66% من المستجيبين إقامة اتحاد فيدرالى ذات سياسة خارجية وعسكرية واحدة. فى السياق ذاته عارض 83% ألا يكون هناك تعاون بين الأقطار العربية. كما يؤكد معهد الدوحة أن 55% من المستجيبين قد أيدوا إقامة وحدة اندماجية و57 % اتحاد فيدرالى. وإذا كان طرح المتشائمين وجيها وسبق وأن اعترف به التيار القومى من خلال سلسلة من الندوات والدراسات التى تناولت التجربة القومية بالنقد والمراجعة فإن تصور المتفائلين قد أصبح هو الآخر يتسم بالعقلانية والواقعية. فقد يكون الاتحاد والتضامن العربى صعبا ومعقدا لكنه ليس مستحيلا ويمكن تحقيقه من خلال إعادة تأسيس وتعريف الوحدة العربية عبر تجاوز الخطاب الوحدوى الكلاسيكى الصوفى الذى يسميه البعض بالميثولاجيا التاريخية التى تركز فى خطابها على الأمة الموحدة عبر التاريخ، وعلى وحدة المنظومة التاريخية والدينية واللغوية، والاهتمام بالطابع البراغماتى للوحدة على غرار الاتحاد الأوروبى. أى على المضمون الاقتصادى والاجتماعى وإبراز المنافع والفوائد التى يجنيها المواطن العربى، والانتقال من عالم المثل إلى الواقعية السياسية، وعلى التدرج والمرحلية (إنشاء سكة حديد، إلغاء التأشيرات، توحيد المناهج الدراسية، الوحدة الجمركية، السوق المشتركة)، وتجاوز معضلات الاندماج الوطنى والصراع بين النحل والملل والأعراق والطوائف، واحترام الخصوصيات الوطنية والدينية والعرقية، والتحرر من السجالات العقيمة ولحظات الصراع المؤلمة بين تيارات الأمة وداخل بعض التيارات نفسها، وعدم الاستمرار فى اعتبار الدولة القطرية صنيعة استعمارية ولا عقبة كأداء، ولا حجر عثرة أمام التوحيد العربى. بل يجب الإيمان بأن وحدة الأوطان قد باتت مقدمة وشرطا لدولة الوحدة العربية المنشودة، والتأكيد على أن الانتماء القطرى ليس نقيضا للانتماء القومى. فى السياق ذاته يجب التأكيد على الترابط الجدلى بين الديمقراطية والوحدة وعلى تجاوز التوحيد القسرى والصيغة الاندماجية، والرؤية البسماركية. كما يجب أن يرتبط ذلك كله بالتحرر من الثنائيات التى تحكمت فى العقل العربى على غرار: عروبة/ إسلام، الدين/ العلمانية، الأصالة/المعاصرة. وانطلاقا من فشل وتعثر التجارب الوحدوية السابقة وحالة التجزئة والتبعية والتخلف فإن مشروع التوحيد العربى لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال كتلة تاريخية تضم مختلف التيارات المؤثرة والفاعلة فى الأمة من قوميين وإسلاميين ويساريين وليبراليين. وإذا كانت كل الإنجازات البشرية عبر مختلف الحقب التاريخية مجرد أحلام، وإذا كانت معظم الاختراعات العلمية سوى تصورات فهل يمكن أن تتحول الوحدة العربية مستقبلا من مجرد يوتوبيا وميثولوجيا إلى واقع؟.