فاروق يوسف يكتب:
مستشفى مجانين بحجم العالم العربي
كان رد الفعل المجتمعي على مقتل فتاة المنصورة المغدورة قد انطوى على قدر لافت من الاضطراب العقلي الذي يعاني منه المجتمع العربي كله، وليس المجتمع المصري وحده.
ما وقع هو جريمة قتل عن سابق إصرار. فالقاتل ارتكب جريمته بعد أن خطط لها وهدفه القتل وليس هناك ما يفسّر الوصول إلى تلك الدرجة من العنف سوى اطمئنان القاتل إلى أن ضحيته ستكون أضعف من أن يدافع أحد عنها. والدليل على ذلك أن شهود العيان اكتفوا بتصوير المشهد عن طريق هواتفهم وهم غافلون عن أن تلك الأفلام ستدينهم.
كان هناك مَن ساهم في عملية القتل حين وَضعت الضحية في حيّز ضيق، محاصرة بالسلاح الأبيض وعيون الحاضرين وعدسات هواتفهم وظنونهم المرتابة إذا لم نقل الشريرة وأخيرا أحكامهم المبتذلة التي أهملت جريمة القتل المتعمد لتصل إلى نوع الحشمة المطلوبة التي يمكن للمرأة من خلالها أن تتفادى القتل. ما ورد على لسان أحد مشايخ الأزهر انحرف بالدافع إلى القتل عن الحكاية الواقعية ليخترع حكاية لها علاقة بما سُمي جهلا بـ”فريضة الحجاب” وهي دعوة ذكورية واضحة للسماح لرجال الدين بالتدخل في العدالة.
بطريقة أو بأخرى صدرت أصوات تدين الضحية. وهو أمر غير مسبوق بالنسبة إلى الإنسان العاقل. هي عودة إلى عصور الإنسان غير العاقل. ففي غياب العقل يمكن للبشرية أن لا ترى الأمور على سويتها. وهو ما يُفسر إدارة المجتمع ظهره للجريمة واهتمامه بنوع الثياب التي يجب على المرأة أن ترتديها لتفادي القتل.
كم مرة علينا أن نكرر “إنها جريمة قتل متعمد” لكي يستيقظ المجتمع من سباته الذي صار مسرحا لرجال دين هم في حقيقتهم شياطين أبعدوا الناس عن الحق والإيمان والرحمة والمحبة وساروا بهم في طرق مظلمة وبعد ذلك نعجب كيف ظهرت التنظيمات والجماعات الإرهابية وانتشر العنف وصار الكثيرون يتخلون عن شروط الوضع الإنساني ليتحولوا إلى وحوش كاسرة.
حفلة الجنون العربي وقد استمرت سنوات طويلة أطاحت بعقل المجتمع فلم يعد قادرا على التمييز بين ما يضره وما ينفعه، ما يرتقي به وما يحط من شأنه. لقد تسلل الجنون إلى أعمق نقاط الوعي ومحا القدرة على التفكير
ألم يكن ما حدث في العراق وسوريا كفيلا بأن يعيدنا إلى درس العقل الذي فشلنا في تلقيه حين سمحنا للغرائز البدائية بأن تُحل العقائد المتخلفة محل الأهداف النبيلة للحياة.
ثم ما هذا الدين الذي يتصدره دعاة العنف الذين ينكرون قول الرحمن “ومَن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما”. أليس النص القرآني واضحا؟ فلماذا يسمح رجل دين لنفسه أن يهمل ذلك النص ولا يلتفت إلى جريمة القتل في حد ذاتها ليهدد النساء بأن القتل سيكون مصيرهن إن لم يلتزمن بوصفة الثياب التي تفرضها شريعته؟
لقد تم استضعاف المجتمع باسم دين لا يمتّ بصلة إلى الله. ولشدة ضعفه فإن المجتمع لم يعد قادرا على الدفاع عن إنسانيته. لقد انهارت قيم الرفعة والجمال والاحترام والعدالة والنبل في العالم العربي بعد أن تمترست الوحوش وراء أسلحتها وليس غريبا أن تكون المرأة هي العدو الأول. عن طريقها يتم تدمير الأجيال القادمة. وليس من باب المبالغة القول إن الأحزاب الدينية قد تمكنت من المجتمع سواء كانت في السلطة أم خارجها من خلال إخضاع المرأة وسلب حريتها.
في أماكن كثيرة من العالم العربي يعتبر الحديث عن حرية المرأة ترفا. لقد عدنا مئة سنة إلى الوراء. بل نحن أسوأ مما كنا عليه قبل مئة سنة. وفي كل الأحوال فإن المرأة العربية لم تتصدر المشهد غير أن أحدا لم يكن يدعو علانية إلى قتلها لأنها لا ترتدي ثيابا تصممها دور أزياء إرهابية مثلما يحدث اليوم.
لم يكن المجتمع ليسمح بدعوات من ذلك النوع.
غير أن حفلة الجنون العربي وقد استمرت سنوات طويلة أطاحت بعقل المجتمع فلم يعد قادرا على التمييز بين ما يضره وما ينفعه، ما يرتقي به وما يحط من شأنه. لقد تسلل الجنون إلى أعمق نقاط الوعي ومحا القدرة على التفكير.
فتاة المنصورة المصرية التي قُتلت أمام المارة هي ضحية ذلك الجنون الذي تمكن من المجتمع. ليس الحجاب، ليس الدين، ليس الله هو المسؤول عما حدث. بل هو الجنون. من غير أن ندري تحول العالم العربي إلى مستشفى للمجانين. يفلت الجناة فيه من العقاب في الوقت الذي توجه أصابع الاتهام إلى المغدورين.
ستحاكم العدالة المصرية القاتل وستحكم عليه بالقصاص الذي يستحقه غير أن ذلك لن يردع المجتمع من المضي في جنونه.