عثمان ميرغني يكتب:

جدلية "الإطار الموضوعي"

الأيام القادمات من عمر السودان سترسم مصيرًا يصعب التنبؤ به؛ فالخميس المقبل الذي يوافق الثلاثين من شهر يونيو 2022، ميقات مضروب من عدة قوى سياسية متفاصلة، كل منها يصر أن ينهي المعركة بالضربة القاضية للأطراف الأخرى.

لجان المقاومة في الخرطوم والولايات دعت لمواكب ومظاهرات مليونية في كل مدن السودان، قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي- أصدرت بيانًا دعت فيه الشعب السوداني للنزول إلى الشارع لاقتلاع الانقلاب.

ولم يكن مفاجئًا أن قوى الحرية والتغيير – التوافق الوطني- المنشقة عن الحرية والتغيير الأم والتي تناصبها العداء دعت هي الأخرى أنصارها النزول إلى الشارع في اليوم المعلوم.

 

وبين هذه وتلك؛ استعدت الحكومة بحزمة إجراءات روتينية لإفشال المواكب، وإثبات أن غروب شمس يوم ”30 يونيو“ لن يختلف عن غيره من الأيام.

تكرر هذا الوضع العام الماضي في التاريخ والمناسبة نفسها، دعت الحرية والتغيير الشعب للتظاهر ففوجئت بدعوة رديفة من أنصار النظام البائد أيضًا للتظاهر في اليوم نفسه.

هذه الظاهرة السودانية الصِرفة، التي قل أن يوجد لها مثيل في الدول الأخرى، هي تعبير عن المسافة الفاصلة بين ”الإطار الموضوعي“ والحقيقة التي تحكم اللعبة السياسية في السودان.

وهي لُب الأزمة المزمنة التي يكابدها السودان منذ أول حكومة قبيل الاستقلال وحتى اليوم.

قبل أن ينال السودان استقلاله، وكانت تحكمه وزارة انتقالية برئاسة السيد إسماعيل الأزهري، وفي ”الإطار الموضوعي“ جرت الدعوة لتكوين ”حكومة قومية“ تحمل آمال السودانيين في وطن مستقل ينعم بالاستقرار والرفاهية.

حمل لواء الدعوة لـ“الحكومة القومية“ ما عُرف سياسيًا في السودان بـ“لقاء السيدين“، وكان في اليوم الأول من ديسمبر 1955، أي قبل استقلال السودان بشهر واحد فقط. السيدان هما السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية، والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار.

السيدان في سياق دعوتهما لـ“الحكومة القومية“ أعلنا ”الإطار الموضوعي“ لدعوتهما تشكيل ”حكومة قومية“ بحيثيات (قيام حكومة قومية تكون صمام الأمان، وتستطيع إنقاذ البلاد من كل خطر متوقع..) كما ورد حرفيًا في البيان الرسمي الذي صدر من الزعيمين حينها.

لم يكن ”الإطار الموضوعي“ الذي استند عليه لقاء السيدين والدعوة إلى حكومة قومية متسقًا مع وقائع التاريخ بعدها، فبعد أسبوع واحد من رفع علم السودان فوق راية القصر الجمهوري وإعلان الاستقلال، بدأت خلافات سياسية حزبية عصيبة أطاحت بالحكومة الوطنية بعد شهر واحد من الاستقلال.

ورغم إعادة النواب انتخاب اسماعيل الأزهري رئيسًا للوزراء مرة أخرى، إلا أنه وحكومته ”القومية!“ ظلا هدفًا لقصف سياسي مستمر من ”السيدين“ إلى أن سقط مع حكومته بعد 6 أشهر أخرى بالتحديد في 6 يوليو 1956، سقوطًا مدويًا أثبت أن ”الإطار الموضوعي“ للقاء السيدين ما كان إلا ذريعة تخفي أطماعهما في السيطرة على المشهد السياسي وليس تكوين حكومة قومية رشيدة تدير البلاد بعد رحيل الاستعمار.

كان واضحًا أن ”الإطار الموضوعي“ الذي تجهر به أدبيات السياسة في السودان، هو على النقيض تمامًا مع الوقائع والحقيقة، بما يفرز في النهاية نتائج وخيمة كرست الفشل السياسي المزمن منذ الاستقلال وحتى اليوم.

ومنذ انتصار ثورة ديسمبر 2018، وتتويجها لسلسلة مظاهرات انتهت، في الخميس 11 أبريل 2019، بالإطاحة بنظام البشير، كان واضحًا أن ”الإطار الموضوعي“ للمشهد السياسي السوداني مصادم ومناقض تمامًا للحقيقة والوقائع على الأرض.

دعت الوثيقة الدستورية الموقع عليها، في 17 أغسطس 2019، لتكوين حكومة كفاءات مستقلة لتحكم الفترة الانتقالية، لأن ذلك هو ”الإطار الموضوعي“ لإنجاز مهام الانتقال حتى تسليم الحكم لحكومة منتخبة.

لكن الحقيقة والوقائع أثبتت أنها ما كانت حكومة كفاءات، ولا كانت مستقلة، فهي حكومة حزبية تضع مساحيق ”تكنوقراط“، وعكفت الأحزاب منذ اليوم الأول في سباق محموم للحصول على أعلى المكاسب الحزبية لا القومية، ولأن القدر لا يُعانَد فقد سقطت بعد أقل من عام من تكوينها.

ودعت الأحزاب لتشكيل حكومة محاصصات سياسية، لأنها بحسب نص تصريحاتهم ستحظى – في الإطار الموضوعي- بدعم الأحزاب جماهيريًا ومؤسسيًا.. وقبل أن تكمل عامها لحقت برصيفتها الأولى لكن هذه المرة بـ“بيان رقم واحد“ من المكون العسكري الذي هو شريك فيها.

هذا السيناريو معاد ومكرر لدرجة الملل طوال الـ66 سنة منذ استقلال السودان، مشهد سياسي يتزين بأدبيات في ”الإطار الموضوعي“ الذي يبني الوطن ويستجيب لرغبة الشعب في الاستقرار والنهضة والرفاهية، لكن لا تمر سوى أيام قليلة حتى يثبت أن الحقيقة والوقائع لا علاقة لها بـ“الإطار الموضوعي“ المعلن رسميًا.

تكرر هذا السيناريو بعد ثورة أكتوبر 1964، مما أدى لتشكيل ثم إسقاط 3 حكومات في أقل من 3 سنوات من 1965 حتى 1968..

كلها قامت على أكتاف وحيثيات ”الإطار الموضوعي“ الذي يُنشر للشعب في البيانات الرسمية ثم يثبت في الحقيقة أن الوقائع والنتيجة كانت ضد ذلك تمامًا، فتسقط الحكومة تلو الحكومة، وعلى الرايات شعارات براقة، بينما الشعب يكابد أسوأ الأوضاع الاقتصادية.

قبيل اليوم الموقوت للمواكب والتظاهرات، في 30 يونيو نهاية هذا الأسبوع، الآن تنشط مفاوضات تحت رعاية دولية ثلاثية (الأمم المتحدة – الاتحاد الأفريقي – منظمة إيقاد) بين قوى الحرية والتغيير –المجلس المركزي– والمكون العسكري..

وبحسب ”الإطار الموضوعي“ الذي تعلن عنه بيانات قوى الحرية والتغيير أنها مفاوضات لـ“إنهاء الانقلاب“ واستعادة الفترة الانتقالية، وهو المطلب الشعبي المرفوع على رايات التظاهرات، ولكن هل فعلًا ستنسجم الوقائع مع هذا الإطار الموضوعي؟

 

الأمر هنا لا يتعلق بالغيب، فهو سيناريو مكرر يستند إلى البدايات والحيثيات التي تنجب النتائج ذاتها منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا.

وتظل الأزمة السودانية المزمنة، أنها مفارقة ”الإطار الموضوعي“ للوقائع والنتائج التي تنشأ منه.