علي عبيد يكتب:
التطرّف يميناً أو يساراً
خارطة العالم تتغير، ليست الحدود الجغرافية أو السياسية ما أقصد بالخارطة، فلطالما كانت هذه الخارطة عرضة للتغيير عبر التاريخ لأسباب كثيرة. الخارطة التي أقصدها هي خارطة توزيع نسب الاعتدال والتطرف بين فئات المجتمع الواحد بشكل عام، وبين النخب السياسية المتطلعة إلى الحكم بشكل خاص.
ما حدث في فرنسا الأسبوع الماضي مثير للقلق، ففي سابقة تحدث للمرة الأولى منذ 35 عاماً ضاعف حزب التجمع اليميني المتطرف، الذي تقوده مارين لوبان، عدد نوابه 15 مرة، متجاوزاً السقف المطلوب لتشكيل كتلة في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، عبر حصوله على 89 مقعداً في الجمعية الوطنية، ولم يكن عددها يتعدى 8 مقاعد عام 2017.
فيما حصل الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد، وهو ائتلاف يساري يقوده زعيم اليسار الراديكالي المتطرف جان لوك ميلانشون، على 131 مقعداً. بهذا يكون الائتلاف الحاكم (معاً) بقيادة إيمانويل ماكرون قد خسر الأغلبية المطلقة التي كان يتمتع بها في الجمعية الوطنية، ويكون اليمين واليسار المتطرفان قد حققا نصراً لم يكونا يحلمان به.
قد يرى البعض أن انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية شأن فرنسي داخلي بحت. وهذا رأي له وجاهته إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أن اهتمامات الشعوب لم تعد كونية بعد أن ضاقت عن استيعاب هموم الشعوب الأخرى، فمشاغل الأفراد اليومية جعلت الإنسان ترساً يدور في عجلة لا يكاد طرف منها يرى الطرف الآخر لكبر حجمها.
لذا نلتمس العذر لمن ينظر إلى الأمر من هذه الزاوية، لكننا عندما ننظر إلى جوهر الموضوع ندرك أن البشر جميعاً يركبون سفينة واحدة، وأن هذه السفينة تبحر بهم نحو المجهول، وأنها في إبحارها هذا معرضة للاصطدام بجبال هائلة من الجليد، ربما نرى قممها التي تظهر فوق سطح المياه، لكن قواعدها المختفية تحت هذا السطح توشك أن تفتك بالسفينة عند أول اصطدام بها، فتفتتها إلى أجزاء تبتلعها مياه المحيط، حتى لا تبقي من ألواحها ودُسرها شيئاً، ولا من راكبيها كائناً.
التطرف يميناً أو يساراً كلاهما خطير ومدمر، ففي ألمانيا، على سبيل المثال، أظهر تقرير حماية الدستور لعام 2021 ارتفاعاً في عدد المتطرفين اليساريين، الذين يتصف أغلبهم بالعنف، عن عام 2020.
فهناك مستوى عالٍ من التطرف اليساري العنيف، وفقاً لوزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر، التي تؤكد أنهم بحاجة إلى تدخل متسق ومبكر للغاية ضد العنف اليساري المتطرف. ويبقى المتطرفون اليمينيون هم الأكثر خطراً، في رأي أغلب المحللين، لأنهم يدفعون تجاه الشعوبية والعنصرية البغيضة التي كانت دائماً منشأ ظهور الجماعات الإرهابية في كل المجتمعات.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فقائمة الجماعات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة يميناً طويلة وممتدة، وممارساتها الدموية تلطخ تاريخ البشرية بدماء غزيرة سالت حتى كادت تغطي الكرة الأرضية، لم تستثن بلداً ولا شعباً ولا طائفة ولا أتباع دين من الديانات السماوية وغير السماوية، حتى أننا نكاد نكتب تاريخ البشرية تبعاً لظهور هذه الجماعات واختفائها، وصعودها وسقوطها، وحجم الخسائر التي خلفتها، والمآسي التي عانى منها البشر خلال فترات ازدهارها.
الخطير في المؤشر الذي نستخلصه من نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية هو أن هذا التطرف بدأ يأخذ صفة شرعية من خلال الأحزاب المتطرفة التي شهدت خلال السنوات الأخيرة صعوداً، ليس في فرنسا وحدها، وإنما في أقطار كثيرة، منها ما هو شرقي ومنها ما هو غربي، على خلاف ما عهدناه من الجماعات المتطرفة التي انتهجت العمل السري، فخرج بعضها من كهوف مظلمة، وخرج بعضها من سراديب تحت الأرض، وخرج بعضها من غرف مسدلة الستائر مغلقة الأبواب.
فحين يكتسب التطرف صفة شرعية، أو تشريعية، كما حدث في فرنسا، تصبح القواعد الأخلاقية والقيم الإنسانية العليا ومبادئ التسامح والتعايش مهددة بشكل لا يدعو إلى القلق فقط، وإنما يثير الذعر، ويدفعنا إلى قرع الأجراس للاحتراس من النفق المظلم الذي توشك البشرية أن تدخله، هذا إن لم تكن قد دخلته فعلاً.
لم يعد التطرف مقصوراً على ساكني الكهوف والسراديب والغرف المظلمة والمتوارين خلف الأقنعة كما عهدناه سابقاً. أصبح هناك رؤساء أحزاب ومتحدثون رسميون وقياديون في أحزاب حاكمة يظهرون تطرفهم بشكل سافر.
انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية التشريعية قد لا تعنينا بشكل مباشر، فهي شأن داخلي، إذا أصر البعض على ذلك. الذي يعنينا هو ما عبرت عنه نتائجها من صعود للتطرف يميناً أو يساراً وتراجع للاعتدال والوسطية، وهذا شأن كوني لا نستطيع أن نختلف عليه إطلاقاً.