علي عبيد يكتب:
أخرسوا هذه الأصوات
كثير من الدول، وكثير منها دول عظمى الآن، قامت بعد صراعات مريرة بين أفراد مجتمعها، وبعد حروب تم إبادة مئات الآلاف من سكانها، حتى وصلت إلى ما نراها عليه اليوم من قوة ونهضة وتقدم.
أبلغ دليل على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي خاضت صراعات داخلية امتدت 5 سنوات من عام 1861 إلى عام 1865م، ذهب ضحية القتال العنيف الذي حدث خلالها بين الاتحاديين وانفصاليي الولايات الجنوبية ما بين 620 ألفاً إلى 750 ألف قتيل من الجانبين، وهو عدد يفوق قتلى الجيش الأمريكي خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية مجتمعتين، وذلك بسبب الخلاف على الرق الذي كان الجمهوريون مصممين على منع انتشاره، بينما كان قادة الولايات الجنوبية مصممين على بقائه. وكان فوز المرشح الجمهوري إبراهام لنكولن في انتخابات عام 1860 العامل الحاسم الذي دعا الجنوبيين البيض إلى إعلان الانفصال، حيث كان الجنوبيون يعتقدون أن تحرير العبيد من شأنه أن يدمر اقتصاد الجنوب بسبب رأس المال الكبير المستثمر في العبيد، في حين كان الجمهوريون يصرون على الحد من انتشار الرق، وقد كانت الغلبة لهم.
ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية حدث شيء مثله أو قريب منه في العديد من الدول الأخرى في أنحاء متفرقة من العالم. وإذا كان يحلو للبعض أن يعتبر الصراعات داخل المجتمعات قاعدة، فإن لهذه القاعدة استثناءات، ومن الشعوب والمجتمعات التي خرجت عن هذه القاعدة مجتمع الإمارات الذي لم يقم على الصراعات الداخلية بين أفراده، ولا على الاختلاف بين مكوناته، وإنما على التواد والمحبة والروابط المشتركة، ولهذا لم يجد قادة الإمارات المؤسسون مشقة في تأسيس دولة الاتحاد عندما فكروا في جمع الإمارات السبع في بوتقة واحدة، تحت راية واحدة، في تناغم قلّ أنْ تجد له نظيراً بين الشعوب الأخرى.
قبل أن تتأسس دولة الإمارات العربية المتحدة كانت الإمارات واحة آمنة، يتشكل من مناطقها البحرية والصحراوية والجبلية مجتمع متجانس الأفراد، يعمل يداً واحدة من أجل خير الجميع وراحتهم، وكانت أفواج من شعوب دول قريبة وبعيدة تفد إلى الإمارات، لا بحثاً عن الرزق فقط، وإنما سعياً إلى العيش في ظل الأمن الذي تنعم به هذه البلاد، والتسامح الذي يسود بين أفراد مجتمع الإمارات الذين يعلون هذه القيمة العظيمة، فيكرمون من يفد إليهم، ولا يشعرون المقيم بينهم أنه ضيف عليهم.
هذا هو ما تعلمناه من آبائنا وأجدادنا، ومن سير السابقين الأولين الذين عمروا هذه الأرض عندما كانت يبابا، وعانوا شظف العيش وتحملوا قسوة الحياة قبل أن يتدفق النفط من باطن أرضها الطيبة الكريمة. وعندما أنعم الله على أهلها بالخير العميم زادت أعداد الوافدين إلى أرض الإمارات للأسباب نفسها التي من أجلها جاء السابقون وعاشوا سنوات في كنف أهل الإمارات. وعبر هذه السنوات الممتدة كلها لم يحدث أن أساء أهل الإمارات معاملة من يفد إلى بلدهم، ولم نر على الجانب الآخر من تنكر لأصحاب هذه الأرض أو منّ عليهم لأنه علم ابناً من أبنائهم أو عالج مريضاً من مرضاهم، لأن هذا كان يتم في إطار من تبادل الود والمحبة قبل تبادل المصالح، في ظل قوانين تحفظ لكل طرف حقه وتصون له كرامته.
حدث هذا على مدى سنوات امتدت منذ ما قبل قيام الدولة، واستمرت إلى ما بعد قيام الدولة، وتواصلت حتى اليوم الذي أصبحت فيه دولة الإمارات العربية المتحدة ملء سمع العالم وبصره، ومهوى أفئدة شعوب العالم أجمع، والبلد الأفضل والأكثر رفاهاً للمقيمين، وفقاً للاستبيانات ومؤشرات التنافسية العالمية، نظراً لما توفره من مزايا، ولما يجدون فيها من حرية وسكينة نابعة من طبيعة أهلها، ولما تتسم به من نسيج اجتماعي متوحد ومتضامن، تسوده بيئة تقبل التعددية والعيش بسلام.
لهذا كله، فإن الأصوات النشاز التي ظهرت مؤخراً لبث العداء والفرقة ونشر الفتنة بين مواطني هذه الدولة والمقيمين على أرضها لا يتسق عزفها مع تاريخ هذه الأرض، ولا طبيعة أهلها، ولا أخلاق الذين يفدون إليها من شتى أصقاع المعمورة منذ القدم لينعموا بما توفره لهم من مزايا لا يجدونها في غيرها من البلدان، ولا حتى أوطانهم الأصلية. ولهذا أيضاً فإن إخراس هذه الأصوات، من الجانبين، واجب على كل مواطن ومقيم، قبل أن يكون واجباً على الجهات المختصة بالدولة، لأن الإمارات وطن الأنقياء المخلصين فقط.