علي عبيد يكتب:
غزوة الكابيتول
كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء تقريباً، وكانت مراسم تنصيب ليوبولدو كالفو سوتيلو رئيساً للحكومة تجري بسلاسة، عندما اقتحمت مجموعة مسلحة من رجال الشرطة، بقيادة أنطونيو تيخيرو، غرفة مجلس النواب الإسباني. اعتلى تيخيرو المنصة، وصرخ آمراً الجميع بالانبطاح أرضاً.
توجه نائب الرئيس غوتييريز ميادو، وهو عسكري برتبة جنرال، إلى الانقلابي تيخيرو وأمره بالاستقامة وتسليم سلاحه. حدثت مناوشة قصيرة أطلق بعدها تيخيرو رصاصة واحدة في السقف تبعها وابل من رصاص رشاشات رفاقه. أصبح النواب رهائن لدى الانقلابيين، وبدأت «عملية الدوق دي أهومادا» التي اتخذت اسمها من مؤسس الحرس المدني، والتي عُرفت باسم F-23 نسبة إلى تاريخ حدوثها الذي كان 23 فبراير 1981م.
في تلك الليلة التي سمّيت «ليلة الترانزوستورات»، واصلت إذاعة «كادينا سير» بث الأحداث للمستمعين الذين التصقوا بأجهزة الراديو لمتابعة مسلسل الأحداث، بينما نجح بيدرو مارتن فرانسيسكو، فني التلفزيون الإسباني، في تسجيل أكثر من نصف ساعة من أحداث قاعة البرلمان، وهو تسجيل نادر يغطي محاولة انقلابية بشكل مباشر.
تصدى الملك خوان كارلوس للمحاولة الانقلابية وطالب الانقلابيين بالعودة إلى ثكناتهم. أدى موقف الملك إلى فشل الانقلاب، وعزّز بذلك موقف الديمقراطية التي كانت لا تزال في أطوارها الأولى، ورفع من شعبيته لدى الإسبان الذين كانوا قد خرجوا من حكم الديكتاتور الجنرال فرانكو قبل 5 سنوات تقريباً من هذا التاريخ.
ربما كان وجه الشبه الوحيد بين تلك الأحداث وما حدث يوم الأربعاء الماضي في واشنطن هو مسرح الأحداث في الوقت الذي اختلفت فيه التفاصيل.
تسمّر العالم كله، وليس الأمريكيين فقط، أمام شاشات التلفزيون والهواتف المتحركة، فقد انتهى عصر الترانزوستورات، غير مصدقين ما يحدث في الولايات المتحدة، إحدى أهم قلاع الديمقراطية، وأكثرها انتقاداً للدول التي يسمونها جمهوريات الموز؛ هذا المصطلح الذي أطلقه الكاتب الأمريكي الساخر أوليفر هنري، واصفاً به جمهورية أنكوريا الخيالية في روايته «الملفوف والملوك».
لم تكن الولايات المتحدة يوم الأربعاء السادس من شهر يناير 2021 جمهورية موز على أي حال، لكن العالم كان في حالة ذهول مما يشاهده على شاشات التلفزيون. مشاهد ذكّرتنا بما يحدث في بلدانٍ نعرفها، عندما تنهار الأنظمة ويهرب الطغاة من الأبواب الخلفية تاركين أنظمتهم تواجه الانهيار وحدها.
لم يكن النظام في الولايات المتحدة ينهار، ولكنه كان يمارس الطريقة التي رسمها له المؤسسون عندما وجد نفسه أمام مجموعة من الغوغاء يحاولون تشويه الصورة بتصرفات لا تليق.
ربما نختلف مع سياسات الولايات المتحدة الخارجية وتصرفات بعض حكامها، لكننا لا يمكن إلا أن نقر بأن فيها نظاماً ينتخب رئيسه بطريقة ديمقراطية. يوم الأربعاء الماضي كان هذا النظام يتعرض لاختبار أمام العالم كله، فهل استطاع أن يجتازه بنجاح؟
من الذي لعب دور الملك، ومن الذي لعب دور العسكر في أحداث الهجوم على مبنى الكابيتول، وإلى أي درجة نحن دقيقون حين نستخدم مصطلح الملك في دولة تنتهج نظاماً رئاسياً جمهورياً، رغم أن هناك دولاً تنتهج نُظماً ملكية دستورية تجمع بين السلطات الممنوحة للملك والنظام البرلماني؟ كان مشهداً غريباً من الصعب تصديق أنه كان يجري في عاصمة دولة عظمى مثل الولايات المتحدة.
صحيح أننا رأينا مشاهد أكثر فوضوية منه، لكن مسرحها كان الشوارع وليس المقر الرئيسي للسلطة التشريعية الاتحادية.
هذا الفرق يحيلنا إلى السؤال الأهم حول من شجّع هؤلاء الغوغاء على اقتحام مقر السلطة التشريعية المناط بها ضمان النزاهة في اختيار رئيس الدولة في ذلك اليوم الذي سيظل محفوراً في ذاكرة الأمريكيين والعالم أجمع، كما حُفِرت في الذاكرة أحداث ومشاهد كثيرة، كان للولايات المتحدة الأمريكية نصيب كبير منها.
لقد شهد مبنى الكابيتول منذ الانتهاء من بنائه عام 1800 أحداثاً كثيرة، كان منها تفجيرات قنابل وإطلاق نار ومحاولات اقتحام واغتيال أغلبها فردي، أحدثت فرقعات في حينها، لكنها المرة الأولى التي يتم فيها اقتحام الكابيتول بشكل جماعي، وإنزال علم الدولة ورفع علم الرئيس فوقه، لأن رئيساً على وشك الخروج من البيت الأبيض كان مصراً على عدم الخروج مهما كان الثمن.
يقول جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة وأحد الآباء المؤسسين: «نريد أن نبني دولة قانون لا دولة أشخاص». فهل نجح الأبناء في المحافظة على رغبة الآباء أم أن غزوة الكابيتول قد قوّضت هذه الرغبة؟