فاروق يوسف يكتب:
فوضى تلد أخرى في العراق
لم تتم الفرحة وإن كانت على شكل عرس زائف. فحين سعى المنتصرون في الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق إلى توحيد صفوفهم تناسوا أنهم يقفون على هوة طائفية يمكن أن تبتلعهم جميعا في أيّ لحظة. وهم إذ يقفون على سطح تلك الهوة فإن ما يجمع بينهم يُمكن أن يُشطب بتفاهمات خارجية وإن نصرهم الذي جاء من الشعب لا يثبت إلا من خلال ولائهم له وذلك ما لا يملكون القدرة على القيام به.
منذ اللحظة التي دخلت فيها الأحزاب بمعية المحتل الأميركي الذي وهبها ما لم تكن تحلم به حين فتح أمامها خزائن العراق أدركت أن بقاءها مرتبط بخضوعها لمشروع الاحتلال وأن في العودة إلى إرادة الشعب العراقي يكمن مقتلها. وهو ما لم تتخل عنه حتى في أسوأ لحظات صدامها مع الشعب حين كان النظام السياسي مهددا بالسقوط. لقد أصبحت التبعية للخارج هي طوق النجاة الذي لا يمكن التخلي عنه بغض النظر عما يمثله ذلك الخارج من خطر على السيادة العراقية وكرامة الشعب ووحدة الأراضي العراقية ناهيك عن القيم الوطنية التي أزيحت عن مكانها في الحسابات السياسية.
لقد تخلى الساسة العراقيون عن أراض عراقية لم تكن موضع نزاع مع الجيران في الماضي كما أنهم ساهموا بطريقة مقصودة في تكريس انفصال الإقليم الكردي وعملت كل الحكومات على تكريس حالة الموت التي يعاني منها القطاعان الزراعي والصناعي من أجل أن يكون العراق في حاجة يومية إلى الاستيراد من جيرانه. أما في ما يتعلق بقطاعي الصحة والخدمات فلا علاج من غير تركيا والهند ولا كهرباء من غير إيران.
ما لم يدركه العراقيون بعد أن باع مقتدى الصدر أصواتهم إلى الفئة الأكثر فسادا أن جميع أفراد الطبقة السياسية الحاكمة الذين احتكروا الترشيح للانتخابات ينتمون إلى جبهة واحدة بغض النظر عن العناوين التي يقفون تحتها. لذلك فإنهم حين تحين لحظة الحقيقة ويرون الهوة التي يمكن أن تبتلعهم يتضامنون فيما بينهم بالرغم من أن كل تكتل منهم يعيش نزاعات داخلية. فالشيعة ليسوا جبهة واحدة. كذلك السنة والأكراد. ولو تُرك الأمر للأكراد على سبيل المثال لتذابحوا في ما بينهم من أجل الحصول على منصب رئاسة الجمهورية. ولكن ضابط الإيقاع الخارجي هو الذي يقرر في النهاية.
لم يثبت المنتصرون في الانتخابات على موقفهم. لم يشكروا الشعب الذي نصرهم، بل أهانوه حين أبلغوه بطريقة مجازية أن الانتخابات قد جرى إلغاء نتائجها وقد لا يحتاج العراق إلى إجراء انتخابات جديدة بالنظر إلى كلفتها كما أنها لن تُخرج العراق من نظام المحاصصة الطائفية الذي هو قدره الأميركي. ذلك كلام صريح. وليس للشعب العراقي سوى أن يؤمن بأن التغيير لن يأتي عن طريق الانتخابات. مهما كانت نتيجة الانتخابات فإن النظام سيبقى. وليس أكثر قسوة في ذلك المجال من تخلي الجناح الشيعي الذي يمثله الصدر عن المتحالفين معه من السنة والأكراد وهو يعرف جيدا أنهم يحتمون به هربا من انشقاقاتهم الداخلية. ولكن خيانة الشعب كانت في المقدمة.
ما كان يخشاه الجميع قد حدث. لقد انفتحت الهوة وابتلعت الجميع. فلا حكومة في وقت قريب. “حكومة الفاسدين” حسب التسمية الصدرية لن ترى النور. كما أن الحزبين الكرديين لن يتفقا على تسمية رئيس كردي للعراق. أما السنة فإنهم يبحثون عن غطاء شيعي جديد قد يعثرون عليه لكن مقابل ثمن باهظ. كل ذلك لا يقرّب أجل النظام السياسي الذي لا يزال أركانه مطمئنين إلى ولاءاتهم الخارجية التي تجعلهم أقوى من الشعب. وفي كل الأحوال فإن لإيران قوتها الساحقة المتمثلة بالحشد الشعبي وهي قوة يمكن أن تحسم النزاع عسكريا.
وليس من باب المبالغة القول إن العراق لن يشهد انتخابات جديدة إلا إذا سقط النظام. فلا معنى لانتخابات يقوم المنتصرون فيها ببيع أصوات ناخبيهم من أجل أن يبقى النظام ولا حاجة لانتخابات يكون فيها المنتصرون ممثلين لنظام طائفي يُعاد إنتاجه كلما اقتربت لحظة سقوطه. لذلك فإن العراق “الديمقراطي” سيتم تأجيله إلى أن يضبط البيت الشيعي إيقاعاته بحيث يتم منع حدوث كارثة مثل التي حدثت في الانتخابات الأخيرة. ولن يكون ضروريا أن تتم حماية الأكراد والسنة على حساب وحدة البيت الشيعي أو الولاء لإيران.