هيثم الزبيدي يكتب:
لماذا توجه الدول الكبرى إلى الشيخ محمد بن زايد دعوات لزيارتها
قبل أكثر من عشرة أعوام شهدت حوارا وتعليقات بحضور شخصية إماراتية قيادية بارزة. تمّ اللقاء في مجلس في أبوظبي، ودار الحديث حول اختيار كبار شيوخ الأسرة الحاكمة أن يتعلم أولادهم وبناتهم لغات الشرق الأقصى وثقافاته. وانصبّ التركيز في تلك المرحلة على اللغتين الصينية والكورية.
أدركت القيادة في الإمارات مبكرا أهمية التغيرات التي تفرض نفسها في العالم. القوتان الصاعدتان الصين وكوريا الجنوبية لم تصلا آنذاك إلى ما وصلتا إليه اليوم، لكن كانت هناك مؤشرات على أن البلدين قد حجزا مقعديْ جلوس إلى طاولة أبرز القوى العالمية الكبرى.
عالم التعددية القطبية الذي يبرز بوضوح اليوم، لم يكن آنذاك قد اختط خرائطه بعد. لكن القيادة في الإمارات استبقت الأمر. أبناء وبنات الشيوخ الكبار هم جزء من خطة المستقبل بما سيحتلونه من مناصب في الدولة. هم الذين سيتعاملون مع عالم تتبوّأ فيه الصين وكوريا الجنوبية مكانة ضمن قائمة القوى العالمية الكبرى.
لعدة اعتبارات، كانت الولايات المتحدة تتراجع عن مكانتها من قوة كبرى وحيدة إلى قوة كبرى ضمن مجموعة من القوى الصاعدة الأخرى في عالم متعدد الأقطاب. لا يمكن الاستهانة بمكانة الولايات المتحدة وقدراتها، وذلك على مختلف الأصعدة، لكن تمثالها العملاق الذي كان يلقي بظلاله على مختلف مناطق العالم، صار يُضرب بمطارق صغيرة وكبيرة تعمل على تغيير شكله وحجمه. ولا يمكن التقليل من شأن الهزة التي تعرضت لها هذه المكانة وهذه القدرات في العراق؛ الهزيمة الصامتة في العراق استبقت الهزيمة الناطقة في أفغانستان. وهو ما أدركته واشنطن حتى قبل أن يستوعبه أعداؤها ويتصرفون وفقه. تصريحات الرئيس جو بايدن المتعلقة بتغيير أولويات بلاده العالمية مثال على عدم قدرة بلاده على أن تكون قوية ومؤثرة وحاضرة في كل مكان. لهذا صرنا نسمع بـتراجع الاهتمام الأميركي بالخليج وزيادته في الشرق الأقصى حيث الصعود الصيني الكبير. التعثر الأميركي في الرد على الهجمات الإيرانية – الحوثية على السعودية والإمارات كان جزءا من حالة التراجع الشاملة لصالح القوى المنافسة.
لا يمكن المرور على قضية الرضا وعدم الرضا دون الإشارة إلى العلاقة بين الإمارات وتركيا. الود الإماراتي في بدايات عهد أردوغان قوبل بعداء مجاني من أنقرة بحجة دعم الربيع العربي والإخوان
ثمة قراءات كثيرة رشحت خلال العقد الماضي وتفيد بأن العالم صار متعدد الأقطاب. جماعة بريكس مثلا تفرض نفسها في هذا السياق. بريكس مختصر الحروف الأولى للبرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا. هي دول صاعدة بالتأكيد، لكن ثمة تقديم وتأخير في حصص المكانة. لا أعتقد أن البرازيل وجنوب أفريقيا تستحقان بوضعهما الحالي مكانة مرموقة كالتي تحتلها القوى الكبرى. كوريا الجنوبية بالتأكيد قوة كبرى. في أوروبا، تستعيد فرنسا مكانتها كقوة كبرى تستحق الاهتمام. ألمانيا قوة كبرى لكن بلا مخالب ودون أنياب. تركيا قوة كبرى لولا تفنن الرئيس رجب طيب أردوغان في تبديد مكانتها في مغامرات أيديولوجية ومالية كارثية. بريطانيا تعتقد أنها قوة كبرى، لكنها تركت نفسها لحماقة الشعبويّين ووصلت إلى ما وصلت إليه من تراجع على كل المستويات. إسرائيل قوة كبرى من وجهة نظر غربية، وقوة غاشمة من وجهة نظر الكثيرين في عالمنا العربي.
نحتاج إلى نظرة إلى هذه القائمة بطريقة مختلفة. علينا أن نبدأ بسؤال من نوع: من يثبّت مكانة الدولة الكبرى في عالم اليوم؟ من دون اعتراف من قِبَل الآخرين، يبقى إحساس القوة الكبرى بأهميتها منقوصا. وهؤلاء الآخرون ممن يعترفون أو لا يعترفون بمكانة هذه الدولة أو تلك على قائمة القوى الكبرى، يجب أن تكون لهم مكانتهم الإستراتيجية والمعنوية التي تؤهلهم بدورهم للاضطلاع بمهمة من يشير ضمنيا إلى هذا الاعتراف أو عدمه.
الإمارات من هذه الدول التي يعد اعترافها بأن هذه الدولة أو تلك قوة عالمية كبرى، أو ليست ضمن القوى الكبرى، معيارا يعتمده غيرها في تحديده لمكانة هذه الدولة أو تلك.
خذ مثلا ما حدث على مدى الشهر الماضي. كان الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات على موعدين عالميين رئيسيين بعد توليه مقاليد الحكم في بلاده. الشيخ محمد بن زايد ليس بفاعل جديد على الساحة الدولية، فعلى مدى عقدين تقريبا كان من أهم الشخصيات السياسية العالمية. لكن الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كانا حريصين على لقاء الرئيس الإماراتي في أول أيام حكمه.
كلنا نذكر الضجة التي صاحبت الإعداد لقمة جدة. ثمة بعد إعلامي للقضية يتعلق بعلاقة الولايات المتحدة بالسعودية وبعد اقتصادي – إستراتيجي يرتبط بإنتاج النفط والحرب في أوكرانيا. لكن الرئيس بايدن اختار وسط زحام القمة أن يلتقي الشيخ محمد بن زايد، وأن يوجه إليه دعوة لزيارة رسمية إلى واشنطن. هذا الرئيس المغيب عن استيعاب متغيرات المنطقة، أراد أن يعود إلى فهم المتغيرات من باب الإمارات قبل غيرها من الدول.
انتهت قمة جدة، لكن بعدها بأيام قليلة كان الشيخ محمد بن زايد في باريس. فرنسا ماكرون تدرك أهمية العلاقة مع الإمارات منذ وقت طويل. أبوظبي كانت جزءا من إعادة تأهيل فرنسا كقوة عالمية صاعدة بعد عقود من التراجع. الفرنسيون حاضرون سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا في الخليج من خلال بوابة العلاقة مع الإمارات، وهم يسجلون حضورا أكبر من باب الثقة التي يوليها إياهم الشيخ محمد.
صار واضحا لإدارة بايدن أن لا شيكات على بياض يمكن أن تصدر في أبوظبي للعلاقات مع الآخرين. لن تبدد الإمارات علاقتها الإستراتيجية مع روسيا إرضاء لإدارة ساذجة لا تعرف كيف ترتب سلم أولوياتها
يمكن أن تعرج على مواقف إضافية لدولة مثل الهند وحرصها على أن تكون موجودة في الإمارات بزيارة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، أو لإسرائيل من خلال تعاقب الزيارات للرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتزوغ ورئيس الوزراء في حينه نفتالي بينيت.
العلاقة مع الإمارات نقطة تأهيل مهمة لصالح تلك القوى الكبرى الحاضرة على الساحة العالمية. الرضا الإماراتي والتعامل الإيجابي مع هذا الرضا أساسيان في موقف الآخرين.
وكما أن هذا الرضا ينعكس إيجابا، فإن عدمه ينعكس سلبا. خذ مثلا التجاهل المتعمد لموقف بريطانيا في عصر بوريس جونسون وما قبله، أي منذ عهد ديفيد كاميرون. صورة جونسون وهو يغادر أبوظبي خائبا في منتصف مارس الماضي لافتة. ذهب وهو يأمل دعما إماراتيا في حرب أوكرانيا وفي قضية الطاقة، فأخذ ضيافته من قهوة وتمر وغادر. الموقف الإماراتي من لندن حسم منذ سنوات طويلة بعد أن صارت واضحة اللعبة الإعلامية المنفلتة التي تمارسها مؤسسات بريطانية مثل “بي بي سي” بحق الإمارات بحجة حرية الرأي.
لا يمكن المرور على قضية الرضا وعدم الرضا دون الإشارة إلى العلاقة بين الإمارات وتركيا. الود الإماراتي في بدايات عهد أردوغان قوبل بعداء مجاني من أنقرة بحجة دعم الربيع العربي والإخوان. سيترك الأمر للرئيس التركي كي يحصي كم ربح وكم خسر من هذا العداء المجاني، وكيف أن تغير الموقف مع الإمارات قاد إلى انفراجة في علاقته الشائكة والملغومة مع السعودية.
ثم لدينا عودة إلى العلاقة مع واشنطن. صار واضحا لإدارة بايدن أن لا شيكات على بياض يمكن أن تصدر في أبوظبي للعلاقات مع الآخرين. لن تبدد الإمارات علاقتها الإستراتيجية مع روسيا إرضاء لإدارة ساذجة لا تعرف كيف ترتب سلم أولوياتها. ولهذا تأتي الدعوة التي وُجهت إلى الشيخ محمد بن زايد لزيارة واشنطن لعل ثمة فرصة لإعادة بناء العلاقة من جديد على أسس متوازنة لا تخضع لابتزاز كما حدث في ملف المقاتلة أف – 35.
الشباب من الشيوخ والشيخات الذين تعلموا الصينية والكورية يتقلدون اليوم مناصب مؤثرة في دائرة صنع القرار في أبوظبي. هم، وغيرهم ممن كانت حصتهم التركيز على الهند وفرنسا وروسيا، سيكونون قوة دعم للقرار الإماراتي في وضع القيمة الاعتبارية الإضافية لكل قوة من قوى العالم الصاعدة. سنرى خلال المرحلة القادمة الكثير من الدعوات توجه إلى الشيخ محمد بن زايد لزيارة عواصم هذه الدول وتأكيد قيمتها على طاولة القوى الكبرى.