ماجد السامرائي يكتب:
لكي لا تضيع فرصة الثورة من داخل العملية السياسية في العراق
لنبتعد قليلاً عن المواقف اليومية العامة حول شخصية ومواقف مقتدى الصدر وربطها بالقرب من المبدئية الوطنية أو ابتعادها عنها التي لم تعد طلسماً غير مفهوم حتى من عامة الجمهور العراقي. من السهل واليسير على كاتب صحافي عراقي وضع “البوندات” العريضة لعناوين وصفية مثل “الصدر لا يعتمد عليه، متقلب المواقف، هو جزء من العملية السياسية..” الخ.
المواقف السياسية الوطنية العراقية وربطها بالواقع قبل التحليل الصحافي السريع، تضع مسؤوليات على أصحاب المواقف الوطنية والأقلام النزيهة التي يمكن أن تصل إلى الجمهور العراقي وتعاونه على تخفيف أضرار صدمات إحباطه، ليس من خلال الآمال اللفظية العابرة، إنما في النظر بحرص على حال العراقيين في ظل أكبر مأزق مرّوا فيه على طول تاريخهم المعاصر.
ما يفيد العراقيين اليوم، وهذه مسؤولية الوطنيين وهم كثر داخل وخارج العراق يساندهم المثقفون والكتاب في الصحف العراقية والعربية الحرة، الجرأة في طرح ما يسمى بحلول المرحلة الحرجة استناداً على قراءات واقعية ثورية لمفاصل وتداعيات الحراك الذي أثاره مقتدى الصدر مؤخرا بغض النظر عن دوافعه الشخصية وطموحاته التي في عمومياتها ليست خطيرة على مصالح شعب العراق المصادرة من القوى السياسية الولائية المتشبثة بالاستمرار.
هذه لحظة فراغ سياسي لم تتوفر في البلد منذ عام 2003 وما بعدها، حين تصاعدت دوافع المصالح والمنافع التي جاء بها العهد الاحتلالي الجديد، وتكالب عليها السياسيون من مختلف المكونات التي اعتبرها الدستور عماد النظام الجديد.
سبق أن ظهر من سموا بالسياسيين العرب السنة الجدد بنشطائهم المزيفين منذ الشهور الأولى لعهد الاحتلال موالين ومشاركين بدرجات وضيعة، وليسوا مدافعين عن تصحيح الاختلال الذي حصل في الدستور، أو مُعطلين بدرجة أو أخرى للهجمة الشرسة السياسية والدموية المنظمة غير العابرة التي سحقت ودمرت طائفتهم بلا مبرر. فقد صادق هؤلاء المرتزقة السنة بسرعة على وثيقة دستور لم يوافق عليه سكان أكثر من ثلاث محافظات من المناطق الغربية، الذي أقرّ في أحد بنوده بتعطيله في حالة اعتراضها.
المعوّق الكبير لمشروع التغيير السياسي "الثوري" الجزئي هو انعدام الإمكانيات اللوجستية للتغيير الشامل أمام امتلاك الأحزاب المراد إزاحتها إمكانيات هائلة استندت وتستند عليها للاطمئنان على استمرارها
اليوم يوفر حراك الصدر بمدّه وجزره الذي يبدو غامض المظاهر والأهداف في بعض فقراته اليومية، فرصة تاريخية من أجل طرح حلول الحد الأدنى المشتركة لمواجهة وقيادة تداعيات الانهيار المقبل للنظام السياسي القائم الموالي لإيران، وإمكانيات تقديم حلول الإنقاذ بعد أن أصبح الشعب العراقي وحيداً في معركة البقاء.
من هنا ينبغي الاستثمار الوطني الدقيق لمواقف الصدر، حتى وإن وصفت بعدم الثبات والانتقال الغامض. لكنها في هذه الأيام واقعياً تصطدم بجدار الهيمنة السياسية الإيرانية وتخترقه، ووضعت القوى السياسية المحلية التابعة في حالة من الانهيار. أليست هذه الحالة الاستثنائية جديرة بالاستثمار الثوري المنظم؟
الجواب نعم. لكن للأسف هناك تشتت وتبعثر في القوى والفعاليات الشعبية، أهمها المظاهر المؤسفة لما وصلت إليه قوى الحراك وثورة أكتوبر 2019 من انقسام وانحدار بعض أفرادها إلى مستويات المصالح، وهو الفخ الذي نصبته لهم القوى المهيمنة المذعورة من المصير المتوقع. لا بد من تجاوزها بقدرات سياسية جريئة وواعية افتقدها الظرف العراقي بعد عام 2003.
هنا ينبغي الدخول إلى بعض المفاصل المهمة من حقبة السنوات العشرين في محاولات الحفاظ على الحدود الدنيا من جدران العراق، رغم قسوة الهجمة وشراستها حين فتحت حدود البلد من الجهة الشرقية بوحشية وهمجية لتدفق البرابرة الجدد بما حملوه من حقد واضح ضد العراق، تحت شعارات طائفية لا علاقة لها بمذهب التشيّع العربي.
لم تكن المواجهة الميدانية للمقاومة العراقية ضد عهد الاحتلال الأميركي ممكنة، لأن الخصم الأول منذ الأيام الأولى شكّل تحالفاً شريراً بين أحزاب وقوى إيران المتعاونة برخص وخيانة مكشوفة مع الاحتلال الأميركي. لهذا تراجعت موجة المقاومة الوطنية العراقية لاختلال توازن القوة الميداني ووجود اختراقات داخل تلك الفصائل باتت معروفة.
منذ عام 2006 أصبح الخيار سياسياً في مواجهة تداعيات المخاطر على كيان العراق ووحدة مجتمعه، تم تحريكه بحوارات أولية كانت سطحية رغم أهمية بعض فصولها، أزعم أنني واحد من المساهمين فيه من خلال اللقاءات غير المنظمة في العاصمة الأردنية عمان مع ناشطين من العرب السنة.
كان هدف بعضهم الذين تحولوّا في ما بعد إلى زعامات ورقية إقناعنا بنظرية العمل من داخل العملية السياسية لاسترداد بعض ما فقده العراق، لكنهم كانوا ماكرين غير صادقين في تلك الأفكار والطروحات، كان هدفهم الحصول على منافع المناصب، واندفعوا بحماسة في خدمة مشروع الاحتلال والوصاية الإيرانية التي بدأت تزحف بقوة، بعضهم تسلّق ثاني درجاتها العليا.
وظلّت فكرة العمل الوطني من داخل العملية السياسية حيّة من خلال محاولات موسمية غالباً ما كانت فردية أو مشتتة في حوارات بعض الناشطين الوطنيين، لم تصبح برنامجاً مُنظماً، مثالها ما صرّح به محمد الحلبوسي قبيل دخوله رئاسة البرلمان بسلبية ونقد وعقل مؤامرة عن بعض السياسيين الوطنيين المعارضين للوضع القائم.
القسم الثاني المؤدلج من العرب السنة هم الإخوان المسلمون في تسميتهم العراقية، فقد ساهموا بدفاع غريب غير مبرر عن العملية السياسية وقادتها الموالين لإيران، رغم انكشاف أهدافها، واندفعوا بقوة في تحالفاتهم مع حزب الدعوة حتى وصلوا إلى ما وصلت إليه نهاية حزب الدعوة ذاته، وفقدوا جمهورهم الذي كانوا يراهنون عليه بسبب عزلتهم وانغمارهم في جمع المغانم الفردية، وأصبحوا أكثر قبحا من الولائيين المباشرين لطهران.
هنا يبدو السؤال السياسي المهم منطقياً ووطنياً في ذات الوقت: هل يتم إنقاذ العراق بمواقف فردية وتصريحات أو كتابات ونشاطات تواصل اجتماعي لمعارضين وطنيين في الخارج أو تجمعات أكاديمية في الداخل غير قادرة على التعبير عن مواقف التصدّي المباشر للنظام القائم القاسي في ردود فعل أجهزته القمعية؟ أم على السائل الخضوع إلى أوهام وأساطير وجود قوى وأحزاب سياسية عراقية تعمل بصمت تحت الأرض وتتهيأ لتلقي الحمم في لحظة ثورة كبرى ضد العهد القائم.
هل هناك إمكانيات وطنية وشعبية حقيقية تضاف إلى إمكانيات مقتدى الصدر للانتقال من المراوحة الحالية التي قد تؤدي إلى تراجع خطير للحراك الوطني العام؟ الأحداث قد تكشف عن ذلك
المنطق الثوري والسياسي يقول إن النظام السياسي القائم يعيش ويستمر على دعم عالمي وأميركي وإيراني لا يقبل المساس بقواعد استمراره وفق مسميات دستورية وديمقراطية تراجعت إلى مستوى السذاجة والسخرية، رغم كل ما يحصل في البلد من انهيار.
الحقيقة المهمة الأساسية الأخرى هي أن ثورة أكتوبر 2019 شكلت، ووفق المشروعية الثورية، الرّد الأول في العراق بعد عام 2003 لهذا كانت الهجمة المضادة شرسة، كما أصبحت نظرية العمل الثوري من داخل العملية السياسية واقعية عبرت عنها فعاليات قيادة مقتدى الصدر عبر تياره الشعبي الواسع التي أحرجت قوى الحكم الموجهة للعملية السياسية في أكثر من مناسبة.
من هنا ينبغي التركيز على مدى رعاية التحول المهم الجديد على طريق إنقاذ العراق من هذه الطبقة السياسية ونظام حكمها بمتابعة ومراقبة وتنبيه وتصحيح أخطاء وتنوير بمسارات ونصائح من أصحاب التجربة الوطنية من دون عقد حزبية أو طائفية مقيتة.
الحراك الذي اشتغل عليه مقتدى الصدر منذ انتخابات 2021 والنتائج المترتبة عليه والتي فتحت أبوابا جريئة لمواصلة مشروع الإصلاح الثوري ببيانات سياسية متواصلة وفعاليات شعبية لها وقعها النفسي بين قطاعات الشعب العراقي آخرها اقتحام البرلمان والمنطقة الخضراء، ينبغي وضعها في إطار محاولات تفكيك جدار العملية السياسية وفضح أركانها، لا الاصطفاف إلى جانب قوى الإطار الولائية في نقدها ووصفها بالفوضوية أو غيرها من الأوصاف المشينة.
انفرد الصدر في معركته الجديدة لأسباب ذاتية رغم علمه بأن ثورة شباب أكتوبر 2019 مثلّت تحولاً مهماً على طريق إنهاء مرتكزات النظام القائم، مع أن الإنجاز الوحيد لها إزاحة رئيس وزراء متواطئ في الخيانة وجرائم قتل الناشطين هو عادل عبدالمهدي، ودعوات عمومية غير متناسقة لإجراء انتخابات مبّكرة، لم يكن المشروع واضحاً بسبب ضعف الخبرة بالعمل الوطني السياسي وهو جديد في مظاهره على الحالة العراقية الراهنة.
المعوّق الكبير لمشروع التغيير السياسي “الثوري” الجزئي هو انعدام الإمكانيات اللوجستية للتغيير الشامل أمام امتلاك الأحزاب المراد إزاحتها إمكانيات هائلة استندت وتستند عليها للاطمئنان على استمرارها في قيادة العملية السياسية، مجموعة “المشروعيات” الدستورية. هذا المعوّق يفسّر تراجع الصدر عن سقف المطالبات الواردة في بيانه الثوري الأول.
لهذا مازالت المناورة بلعبة حفاظ الأحزاب الولائية على قيادة العملية السياسية المتمثلة حالياً بما يسمى “الإطار التنسيقي” بيد تلك الأحزاب حتى وإن أبدت مرونة محسوبة تجاه خصمها الصدر. ترّقب قوى حراك أكتوبر وعدم دخولها المباشر في لهيب المعركة السياسية الحالية مفيد، لكن لا بدّ ألا يكون ذلك بمسافة تجعل من قيادة الصدر منفردة لوحدها.
هل هناك إمكانيات وطنية وشعبية حقيقية تضاف إلى إمكانيات مقتدى الصدر للانتقال من المراوحة الحالية التي قد تؤدي إلى تراجع خطير للحراك الوطني العام؟ الأحداث قد تكشف عن ذلك.
لكن، ما يحصل اليوم في العراق محاولة جدّية للثورة من داخل العملية السياسية ينبغي عدم إهمالها وترك تداعياتها لفعاليات مقتدى الصدر الذي قد يرغم من قبل طهران ووكلائها على صفقات مرحلية بتوجيه نداءات علنية للصدر بضرورة الصمود وعرض إمكانيات جميع قوى الحراك الشعبي للمساندة والاتفاق على مشروع مرحلي للثورة الشعبية دون ضياع المكاسب اللوجستية الحالية في لحظة ترنح النظام القائم وسقوطه.