صالح البيضاني يكتب:
"الشرعية" اليمنية في طورها الجديد
يمر اليمن بمرحلة تحولات كبرى بعد سبع سنوات ونيف من الحرب، باتت ملامح هذه التحولات تطل برأسها كاشفة عن طبيعة وشكل أحداث واصطفافات قادمة، لا يبدو أنها ستكون الأخيرة ولكن ربما ستميز السنوات القادمة في واقع سياسي واجتماعي متقلب وغير مستقر.
وإذا كان صوت الحديث عن نهاية الحرب اليمنية عاليا خلال الأشهر الأخيرة على وقع الهدنة الأممية، إلا أن ما يحدث في حقيقة الأمر ليس أكثر من استراحة محارب فرضتها وأطالت في عمرها الضغوط الدولية التي ما تزال تتعامل مع تعقيدات الملف اليمني بشيء من الرومانسية، بعيدا عن جذور الصراع اليمني المتشعب الذي يتداخل فيه السياسي مع الجهوي ويتشابك فيه الأيديولوجي مع الاجتماعي.
ويمكن تشبيه دروب الصراع اليمني الوعرة ومسالكه، من حيث تعقيداتها السياسية والتاريخية والعقائدية، بالمتاهة التي ضلّ في سراديبها كل من ظن لوهلة أنه قادر على فك ألغازها والوصول إلى نهاياتها السعيدة.
وإذا ما توقفنا قليلا أمام بعض التحولات التي أفرزتها سنوات الحرب اليمنية الأخيرة، سنجد أن المشهد اليمني لمن يراه من بعيد ما يزال منقسما إلى جبهتين إحداهما تمثل معسكر المناهضين للحوثي “الشرعية”، والأخرى يمثلها الانقلاب الحوثي وما يتبعه من “ثآليل” صغيرة في جسم الانقلاب الذي تشكل منذ اجتياح العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، وما تلا ذلك من تحالفات في معسكر الانقلاب سرعان ما انهارت بعد تخلص الحوثيين من حليفهم السابق علي عبدالله صالح في العام 2017.
وعند الاقتراب قليلا من تفاصيل هذا المشهد، يبدو الأمر أكثر تعقيدا مما يظن البعض، فمعسكر “الشرعية” اليمنية يحوي بداخله الكثير من المتناقضات والمشاريع، التي أجبرها على التمترس في خندق واحد عدوّ مشترك متمثل في الميليشيات الحوثية، وكذلك إصرار التحالف على الحيلولة دون انهيار هذا الجدار الذي يقف حاجز صد أخير في مواجهة المشروع الحوثي في اليمن.
يمكن تشبيه دروب الصراع اليمني الوعرة ومسالكه، من حيث تعقيداتها السياسية والتاريخية والعقائدية، بالمتاهة التي ضلّ في سراديبها كل من ظن لوهلة أنه قادر على فك ألغازها والوصول إلى نهاياتها السعيدة
وقد شهد معسكر “الشرعية” في أبريل الماضي عملية إنعاش هائلة، بعد أن أوشك هذا المعسكر على التداعي والانهيار، وكانت مشاورات الرياض التي رعاها مجلس التعاون الخليجي ومن خلفه التحالف العربي بقيادة السعودية، بمثابة أكبر تحول في هذا المعسكر غير المتجانس، الذي استطاعت المشاورات تجديد شرايينه المتصلبة، من خلال التوافق على استئصال أبرز عوامل الفشل التي لازمت “الشرعية” خلال الأعوام الماضية، وحرّرتها من هيمنة طرف سياسي وحيد كان يمسك بتلابيبها، ويمتص الدم من أوردتها الصدئة.
وبينما يرى بعض السياسيين اليمنيين أن تجربه مجلس القيادة الرئاسي قد لا تكون أحسن حالا من النماذج السابقة التي عرفها تاريخ اليمن السياسي المعاصر وانتهت بالفشل، إلا أن الشواهد تؤكد أن حال اليمن لم يكن يوما بهذا الضعف والانقسام الذي هو عليه اليوم، وهو الإخفاق المذل الذي حوّل فترة الرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي إلى واحدة من أكثر نماذج الترهل السياسي وضعف السيطرة، في ظل حالة من الانفصام والقطيعة بين القوة على الأرض ومن يمثلها عسكريا وشعبيا، وبين “الشرعية” كمؤسسة تحولت في نهاية المطاف إلى مجرد أداة مستلبة من قبل طرف سياسي واحد يستخدمها في تصفية حساباته مع خصومه السياسيين الأقوياء والمسيطرين على الأرض، من دون أن يتمكن هذا الطرف المهيمن من تحقيق أيّ مكسب يتجاوز اختفاءه خلف لافتة الشرعية الرخوة وشدها إلى الأسفل آنذاك.
وباعتقادي، أهم ما فعلته مشاورات الرياض التي انبثق عنها هذا التغيير الهائل في قمة هرم “الشرعية”، هو أنها أعادت لمؤسسة الشرعية هيبتها ومكانتها، من خلال إزالة الهوة السحيقة بينها وبينها الحقائق التي تشكلت على الأرض خلال سنوات الحرب، بحيث تصدّر الأقوياء الحقيقيون في معسكر المناهضين للحوثي، واجهة الشرعية، بعد تعيينهم في مجلس القيادة الرئاسي الذي بات اليوم يمثل الشرعية الدستورية والسياسية وكذلك العسكرية والشعبية في نفس الوقت، وتم تحجيم الطرف المهيمن الساعي للتمكين إلى حجمه الطبيعي.
وكما هو واضح من رصد ردود الأفعال والأحداث التي تلت الإعلان عن المجلس الرئاسي، لا يبدو أن الحوثيين فقط من انزعج من هذا التحول الكبير، بعد أن كانوا يستمتعون قبل ذلك بالنزاع المزمن بين رأس الشرعية “الفارغ “وأذرعها القوية عسكريا وسياسيا وشعبيا، والتي كانت في محطات كثيرة عرضة وهدفا لقرارات مؤسسة الرئاسة والحكومة، التي ظلت لسنوات مسلوبة القرار خاضعة لهيمنة الإخوان ونزواتهم ومغامراتهم العبثية والمدفوعة بالمال أحيانا، أو بالأيديولوجيا وسياسة “التمكين” أحيانا أخرى.
وإلى جانب الحوثيين، لا يخفى على أحد اليوم أن الطرف الذي فقد سيطرته الكاملة على إرادة “الشرعية” وإدارتها ما يزال يبدي نوعا من المقاومة، عبر التمرد العسكري كما حدث في شبوة، أو عبر الابتزاز السياسي من خلال التلويح بالانسحاب من الشرعية، أو من خلال التشويه الإعلامي الذي طال “الشرعية” ذاتها والذي كان يستهدف الآخرين باسمها وتحت لافتة الدفاع عنها.
وقد مثّلت حالة التماسك التي أبداها مجلس القيادة الرئاسي والمواقف التي أطلقها رئيس المجلس في الرد على الابتزاز الإخواني، وما تلاها من زيارة قام بها الدكتور رشاد العليمي إلى أبوظبي والرياض، رسالة مفادها أن قواعد اللعبة السياسية تغيرت، وأن الإساءة للحلفاء اليمنيين في مواجهة المشروع الحوثي لم تعد ممكنة، وأن استهداف التحالف العربي تحت رداء الشرعية أصبح أمرا من الماضي، وأن “الشرعية” بعد اليوم لن تسمح بأن يؤكل الثوم بفمها، ولن تأكل أبناءها، أو تبتر أطرافها التي تحارب بها الحوثيين على الأرض!