د. صبحي غندور يكتب:
الرؤية المشبوهة للعرب والمسلمين في الغرب
مرّت الصورة المشوّهة والمشبوهة للعرب والمسلمين في الغرب عموماً بثلاث مراحل، فهناك مرحلة ما قبل سقوط "المعسكر الشيوعي"، حيث كان التركيز السلبي على الإنسان العربي تحديداً (كهويّة قومية وثقافية دون التطرّق للبُعد الديني)، من خلال توصيفه عبر الإعلام وبعض الكتب والأفلام السينمائية بالإنسان الماجن والمتخلّف الذي يعيش في بلدان صحراوية ما زالت تركب الجِمال رغم ما تملكه من ثروةٍ نفطية. وفي هذه المرحلة جرى تجنّب الحملات السلبية على الإسلام أو المسلمين عموماً بسبب تجنيد المسألة الدينية الإسلامية في مواجهة "المعسكر الشيوعي"، كما حدث في أفغانستان ضدّ الحكم الشيوعي فيها، وكما جرى في تحريك جمهوريات إسلامية في آسيا ضدّ موسكو الشيوعية، وكما حصل أيضاً من دعمٍ لبعض الجماعات الإسلامية ضدّ التيّار القومي العربي الذي كان يقوده جمال عبد الناصر.
أمّا المرحلة الثانية، فقد بدأت بمطلع عقد التسعينات، واستمرّ فيها التشويه السلبي للهويّة القومية الثقافية العربية لكن مع بدء التركيز أيضاً على الهويّة الدينية الإسلامية، حيث تجاوز التشويه العرب ليطال عموم العالم الإسلامي باعتباره مصدر الخطر القادم على الغرب و"العدو الجديد" له بعد سقوط "المعسكر الشيوعي".
في هاتين المرحلتين، لعبت (وما تزال إلى الآن) الجماعات الصهيونية وقوى عنصرية ودينية متعصّبة ومتصهينة، الدور الأبرز في إعداد وتسويق الصور المشوّهة عن العرب والإسلام. بدايةً في المرحلة الأولى، لإقناع الرأي العام الغربي بمشروعية وجود إسرائيل على أرضٍ عربية (مقولة شعب بلا أرض على أرض بلا شعب)، وبأنّ العرب قبائل رُحّل متخلّفة ولا تمثّل الحضارة الغربية كما تفعل إسرائيل!. ثمّ أصبح الهدف في المرحلة الثانية (أي في مطلع التسعينات) هو تخويف الغربيين من الإسلام والمسلمين كعدوٍّ جديدٍ لهم، وفي ظلّ حملةٍ واسعة من الكتابات والكتب والمحاضرات عن "صراع الحضارات"، وبشكلٍ متزامنٍ أيضاً مع ظهور مقاومة للاحتلال الإسرائيلي بأسماء منظّمات إسلامية.
المرحلة الثالثة ظهرت عقب الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، وما لحقها من أعمال إرهاب مشابهة في بلدان مختلفة جرت تحت أسماء جماعات إسلامية، وأصبح يُرمز اليها، اختصاراً لمفاهيمها وأساليبها، بجماعات "القاعدة" رغم عدم تبعيتها لقيادة واحدة أو ارتباطها بتنظيمٍ واحد، وهذه المرحلة جدّدت نفسها من خلال ما قامت به "جماعات داعش" من إرهاب ووحشية في الأساليب تحت راية "الدولة الإسلامية"!.
وخطورة هذه المرحلة الثالثة أنها حوّلت ما كان مجرّد كتاباتٍ في عقد التسعينات عن "العدوّ الجديد للغرب"، إلى ممارساتٍ ووقائع على الأرض، كان المستفيد الأول منها إسرائيل والمؤسّسات الصهيونية العالمية، التي كانت تُروّج أصلاً لمقولة "الخطر القادم من الشرق"، والتي لها أيضاً التأثير الكبير على صناعة القرارات السياسية في أميركا والغرب عموماً.
وكانت إدارة جورج بوش الابن هي الحاضنة والمنفّذة لكلّ السياسات التي وضعها، في أواسط التسعينات، جملةٌ من "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة بالتنسيق مع معاهد وشخصيات معروفة بعلاقتها الوطيدة بإسرائيل، بل كان لرئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو دورٌ مباشر فيها آنذاك من خلال ما يُعرف باسم وثيقة: «الانفصال عن الماضي: إستراتيجية جديدة لتأمين الأمن» Clean Break التي صاغها في العام 1996 ثمانية من كبار "المحافظين الجدد" والذين حاز بعضهم على مسؤوليات كبيرة في إدارة بوش، وكان لهم القرار في الحرب على العراق، وفي إطلاق مقولة "الحرب على الإرهاب" في العالم الإسلامي.
لذلك، وضع من حكموا أميركا من "المحافظين الجدد"، في مطلع القرن الحالي، شعار "الخطر الإسلامي" منذ التسعينات ليُقبَل أولاً داخل أميركا والغرب قبل أيّ مكانٍ آخر، وليبرّر سياسات وحروب لم تكن لاحقاً لصالح أميركا، ولا لدورها القيادي الأوحد المنشود، بل استفادت منها فقط شركات ومصانع ومصالح خاصة، إضافةً إلى ما جنته إسرائيل من توظيفٍ كبير لهذه السياسات والحروب الخاسرة. ولا شكّ أيضاً بأنّ أساليب الإرهاب والعنف المسلّح بأسماء جماعاتٍ إسلامية، خدم بشكلٍ كبير هذه السياسات وإن تصارع شكلاً معها في أكثر من ساحة!.
وقد ساهمت هذه الثقافة المعادية للعرب والمسلمين في تقوية التيّار اليميني المحافظ في أميركا وفي عدّة دول أوروبية، كما كان لها التأثير الفاعل في نجاح ممثّلي هذا التيّار في انتخابات الكونغرس خلال فترة عهد باراك أوباما، ثمّ بإيصال دونالد ترامب لمنصب الرئاسة الأميركية.
لقد تردّدت في العقود الأخيرة مقولة "الإسلام والغرب" كمشكلة بدأ بطرحها الغربيون أنفسهم. فدعاة هذا الطرح في الغرب لا يستطيعون القول: دين مقابل دين، لأنّهم بأكثريتهم ينتمون لمجتمعات علمانية لا تقيم للدين دوراً في تطور المجتمع أو في نظامه السياسي، وبالتالي تختار – أي هذه المجتمعات- كلمة "الغرب" لتعبّر عن جملة خصائص.. فهي تعبّر أولاً عن مضمون من الناحية الاقتصادية (نظام الاقتصاد الحر)، وهي تعبّر عن مضمون من ناحية النظام السياسي (النظام الديمقراطي العلماني)، كما تعبّر عن مضمون من ناحية الموقع الجغرافي، الذي كان لفترةٍ طويلة رمزاً لحالة المواجهة في الحرب الباردة مع "المعسكر الشرقي الشيوعي"، وتعبّر أيضاً عن كتلة لها مضمونها الأمني بما يُعرف بحلف الناتو أو حلف الأطلسي، وهي أيضاً – وهذا الأهم- تعبّر عن كتلة أصبح لها مجموعة من المفاهيم الثقافية الخاصة بها تريد تعميمها على باقي دول العالم، وهي ضمناً، تعبّر أيضاً عن تراثٍ ديني هو مزيج من المسيحية واليهودية معاً.
طبعاً، كلمة "الغرب" لا يجب أن تستبدل ب"المسيحية"، لأنّ هذا الاستبدال من شأنه أن يوقع الجميع في محظور لا يجب أن يقعوا فيه. فمشكلة العالم الإسلامي ليست مع المسيحيين في الغرب، لأنّ العالم المسيحي نفسه عانى من صراعات دموية حصيلة الصراع على المصالح بين حكّام دول "العالم الغربي"، وقد شهدت أوروبا الغربية في القرن العشرين حروباً لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل، جرت بين دول أوروبية مسيحية، يجمع بينها الموقع الجغرافي الواحد كما يجمعها الدين الواحد والحضارة الواحدة.
وهناك في داخل الغرب قوى تريد التقارب مع العرب والمسلمين، كما هناك في داخل الغرب قوى تريد العداء معهم. هناك في داخل الغرب قوى تتصارع مع بعضها البعض، وهناك في داخل العالم الإسلامي أيضاً حروب داخلية على أكثر من مستوى. أي، ليس هناك جبهتان متّحدتان: غربية وإسلامية، بل هناك كتل متنوعة وقوى متصارعة في كلٍّ من الموقعين.
طبعاً تشويه الصورة العربية والإسلامية في الغرب، رافقه ويرافقه، عاهات وشوائب كثيرة قائمة في الجسمين العربي والإسلامي، كما أنّ المناخ السياسي والثقافي والإعلامي في الولايات المتحدة والغرب عموماً هو جاهزٌ لكلّ عاصفةٍ هوجاء ضدَّ كلّ ما هو عربي وإسلامي، خاصّةً بعدما حدث من ممارساتٍ إرهابية هنا أو هناك، وتتبنّاها "داعش" حيث أعطت زخماً كبيراً ووقوداً لنار الحملة على العرب والمسلمين أينما كانوا.
لكن هل يمكن تجاهل وجود أزمة حقيقية لدى العديد من الشعوب الإسلامية، والتي ازدهر في أوساطها الفكر التكفيري القائم على طروحات حركات تستبيح قتل كل من يختلف معها دينياً أو مذهبياً أو فقهياً؟! فالقتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف للدين الإسلامي ولكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو تكرّر رغم ذلك في أكثر من زمان ومكان، وفي ذلك دلالة على تأثير هذا الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية. فالاختلاف والتنوع في البشر والطبيعة هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم (وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب وأمكنة مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه، و"من ليس معهم فهو ضدّهم"، ويكفّرون ويناهضون من ليس على معتقدهم حتّى لو كان من أتباع دينهم أو وطنهم.