هيثم الزبيدي يكتب:
كلنا عراة أمام الجاسوس الصيني
ضع البوارج الأميركية التي تمخر مضيق تايوان جانبا، ولا تركز كثيرا على عدد المقاتلات الصينية التي تنتهك خطوطا افتراضية رسمت لتحمي تايوان من المطالبة الصينية باستعادة الجزيرة المتمردة. الحرب الباردة الحقيقية تجري على جبهتين مختلفتين، كل جبهة على طرفي نقيض من الأخرى. واحدة في قمة البدائية والأخرى في ذروة التقدم.
الجبهة البدائية واضحة جدا: حرب الوقود الأحفوري. الذي ينتصر فيها هو الطرف القادر على حفر أو شراء نتاج حفر مناجم الفحم وحقول النفط والغاز. لا فضل لأحد في هذا، إذ تراكم الوقود الأحفوري على مدى مئات الملايين من السنين، فحما ونفطا وغازا، وصادف أنه محرك العالم الحديث. كلما كانت لديك مناجم أو حقول من هذا الوقود أكثر، أو كان لحليفك منها أكثر، صارت لديك القدرة على التفوق في هذه الجبهة.
الجبهة المتقدمة من نوع آخر. إنها جبهة القدرة على إنتاج الشرائح الإلكترونية. لا أعرف إن كان بوسعنا القول إن أول رصاصة أطلقت في هذه الحرب هي "رصاصة" حظر سيطرة شركة هواوي الصينية على تقنيات الجيل الخامس من الاتصالات اللاسلكية (5 جي). الولايات المتحدة، ومن ثم تبعها كل الغرب، رفضت أن تسمح لهواوي بالسيطرة على هذا القطاع الحيوي الذي هو أساس من أسس الثورة الصناعية الرابعة (أو الخامسة اعتمادا من أين تبدأ بالعد). الذي يسيطر على 5 جي يتحكم (ويتجسس) بكل شيء تقريبا. من هاتف نقال يمكن أن تشغل السخان في بيتك أو تراقب عمل محطة نووية. وإذا الناقل 5 جي كان مخترقا صينيا، فكلنا عراة أمام الجاسوس الصيني.
لكن هذه الجبهة معقدة جدا. الولايات المتحدة منعت مؤخرا وصول المعالجات الرقمية المتطورة إلى الصين بحجة أنها "مزدوجة الاستخدام". سبب مضحك بكل معايير الأمن والاستخبارات. وكأن واشنطن أرسلت كريستوفر كولومبوس لإعادة اكتشاف أميركا. أي طالب هندسة في الصف الأول سيقول لك إن هذه المعالجات تسيّر الصواريخ وتتحكم بالطائرات والمفاعلات النووية وكل ما يخطر على بالك من معدات عسكرية أو إستراتيجية. وهي كذلك منذ عقود. الجديد هو انتخاب الولايات المتحدة للصين كعدو إستراتيجي بعد أن ملت من قتال ملتحي داعش وطالبان.
نتائج المنع، للمفارقة، تقود الصين إلى التعجيل في الاعتماد على الذات في تصنيع المعالجات. أضخم منظومة ذكاء اصطناعي في العالم، وهي صينية، تحتاج إلى هذه المعالجات لتبقى الأكبر والأهم في مشروع القرن الصيني. كلما زادت واشنطن من عقوباتها بمنع وصول هذا النوع من التقنيات إلى الصين، كلما زاد إصرار الصين على صناعة معالجاتها الخاصة.
لكن هذا جزء من الحكاية. الولايات المتحدة نفسها تعيش "صحوة" قائمة على إعادة الاعتبار لصناعة رقائق السيليكون. اكتشفت واشنطن أن شرائح الذاكرة في كل أجهزتها تقريبا تأتي من الصين وتايوان وكوريا الجنوبية. ما تمنعه واشنطن عن التنانين الشرقية الصاعدة، يمكن أن يُردّ عليه بمنع مضاد، سواء أكان اختياريا كما في حالة رد صيني تجاري، أم قسريا إذا ما أقدمت الصين على محاصرة تايوان أو احتلالها.
كيف سيحسم بوتين الحرب البدائية من خلال التحكم بضخ الغاز إلى أوروبا أو بالتأثير على حجم إنتاج أوبك+، ما زال فيه أخذ ورد ويبدو ليس بعيدا زمنيا. لكن جبهة الحرب المتقدمة على من يتحكم بالشرائح الإلكترونية لا تزال في طور التسخين.