د. محمد السعيد إدريس يكتب:
التصعيد العسكري والخيارات الصعبة في أوكرانيا
ارتبكت كل الحسابات، وأخذ الغموض المشوب بالحذر يحكم معظم التعليقات والتحليلات بعدما أعلنت أوكرانيا أنها استعادت 3 آلاف كيلومتر مربع من القوات الروسية في هجوم مضاد شمال شرق البلاد، وذلك منذ أن أعلنت تقارير استخباراتية غربية أن الوضع الميداني أصبح يعمل عسكرياً لمصلحة أوكرانيا، وأن القوات الأوكرانية تحقق مزيداً من النجاح في هجومها المضاد.
المعنى المباشر لهذه التقارير الأوكرانية والغربية هو أن المعركة تقترب من الحسم العسكري لمصلحة أوكرانيا، وأن «العملية العسكرية الروسية» تقترب من الفشل. فإلى أي مدى يمكن الثقة بمثل هذه التقارير؟
السؤال مهم، لأن الجانب الآخر الروسي يقول عكس ذلك، وإن كان يقرّ بوجود «أزمة» في إدارة العملية العسكرية. لذلك يمكن القول إن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تمرّ بمرحلة انتقالية، قد تكون الانسحابات حقيقية، وأن القوات المنسحبة في طريقها للعمل في مناطق أخرى من ميدان القتال الواسع، وقد تكون تكتيكية ومجرد خديعة للإيقاع بالقوات الأوكرانية. فمن ناحية احتمال أن تكون الانسحابات الروسية من جبهة خاركيف الاستراتيجية مجرد «إعادة انتشار» ما يعني نفي مسألة الإخلاء والانسحاب الكامل.
وقالت وزارة الدفاع الروسية إنها ستعيد نشر القوات المتمركزة فى «بالاكليا» و«ازيوم» بمقاطعة خاركيف، لتعزيز جبهة دونيتسك. أما من ناحية كون الانسحابات «انسحابات تكتيكية» وأنها تدخل ضمن ما يعرف ب«الخديعة العسكرية» فهناك احتمال لكون الروس يقومون هم أيضاً بما يقوم به الأوكرانيون، حسب توضيحات المراقبين الغربيين في مجلة «لوبوان» الفرنسية، تحدثت في تفسيراتها للانسحابات الروسية المثيرة أمام هجوم القوات الأوكرانية المتقدمة، عن أن الأوكرانيين «نجحوا في خداع الروس بأن حشدوا قواتهم فى جبهة خيرسون بالجنوب، لدفع الروس لنقل قواتهم إلى هذه الجبهة لكنهم قاموا بهجومهم الكبير وهاجموا على جبهة خاركيف في الشرق».
فليس هناك ما يمنع القول بأن الروس انسحبوا من جبهة خاركيف لدفع القوات الأوكرانية للتقدم نحوها والتمركز فيها، ومن ثم الانقضاض عليها جواً وإبادتها، وهذا ما يحدث الآن بالفعل على هذه الجبهة حيث يركز الروس من تكثيف هجماتهم الجوية على هذه الجبهة، حيث ذكرت المعلومات أن «موسكو تعاقب التقدم الأوكراني بغارات مكثفة أسفرت عن مئات القتلى والجرحى بعد ساعات من إعلان أوكرانيا استعادة أكثر من 30 بلدة في إطار الهجوم المضاد.
وسواء جاء هذا الهجوم الروسي الجوي المضاد تنفيذاً لعملية خداع سبق أن قامت بها عبر سحب أعداد كبيرة من القوات من هذه الجبهة في خاركيف، أو أن هذا الهجوم المضاد يجيء عقب انسحابات اضطرارية فعلية، فإن الموقف العسكري الآن هو استمرار الصراع على الجانبين، ومن ثم يعيد طرح التحدي الاستراتيجي من منظور المراهنة على العمل العسكري من جانب الأوكرانيين والغرب، لإجبار الروس على الانسحاب من أوكرانيا والخضوع لمحادثات غير مشروطة، أو المراهنة على «حرب الغاز» التي تقودها روسيا ضد الأوروبيين مع قدوم فصل الشتاء، والطموح لكسب هذه المعركة وإجبار الأوروبيين على التوقف عن دعم أوكرانيا، عسكرياً واقتصادياً.
الواضح فعلاً أن كل الرهانات تتركز الآن حول «فصل الشتاء»، سواء كانت رهانات كسب الأوكرانيين، ومعهم الغرب كله، للمعركة عسكرياً في أوكرانيا قبل حلول فصل الشتاء، أو رهانات الروس على فصل الشتاء لكسب معركة «الغاز» ضد الأوروبيين.
الواضح أن الغرب، وبالذات حلف شمال الأطلسي بقيادته الأمريكية، يصعّد عسكرياً، بدعم أوكرانيا، قبل مجيء فصل الشتاء، وقبل موعد إجراء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي، على أمل أن يؤدي تحقيق نجاح عسكري ضد روسيا إلى تحسين الوضع الانتخابي للحزب الديمقراطي، ودعم موقف الرئيس جو بايدن، سياسياً.
زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مؤخراً، لأوكرانيا، وترؤس وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، اجتماعاً عسكرياً في قاعدة أمريكية بألمانيا، بحضور ممثلين ل50 دولة بهدف تعزيز الدعم العسكري لأوكرانيا، كلها مؤشرات تؤكد جدية المراهنة الأمريكية على الخيار العسكري ضد روسيا عبر دعم أوكرانيا.
على الجانب الآخر، يراهن الروس على الرضوخ الأوروبي للمطالب الروسية بفضل «الردع» الذي تلعبه مخاوف فصل الشتاء المقبل.
رهانان يسابقان وينافسان بعضهما بعضاً، ما دفع موقع «ذاهيل» للقول إن «أمريكا أمام خيارين لا ثالث لهما في أوكرانيا: إما الجنوح إلى تسوية سلمية تأخذ في الاعتبار الاقتراح الذي قدمته أوكرانيا نفسها في أول الحرب حول ضمان نوع من الحياد، أو خيار تصعيد التدخل العسكري والانخراط في صراع ممتد مع روسيا قد يدفع الصين للتخلي عن قدر من ترددها والاندفاع نحو روسيا، وخلق جبهة مواجهة حقيقية ضد الأمريكيين».