د. محمد السعيد إدريس يكتب:
مستقبل صراع الإرادات والهويات
كشفت اشتباكات معركة "مسيرة الأعلام" الإسرائيلية وما فجرتها من "معركة أعلام فلسطينية" مضادة وما صاحبها من تطورات ساخنة على الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى عن جوانب مهمة عن حقيقة الصراع الفلسطينى – الإسرائيلى المحتدم على أرفض فلسطين ومقدساتها أبرزها أن هذا الصراع أخذ يتحول إلى "حرب هويات" و"حرب إرادات". حرب حول هوية الأرض هل هى أرض فلسطين العربية بمقدساتها الإسلامية والمسيحية أم هى أرض إسرائيل برموزها اليهودية، وحرب حول هوية شعب هذه الأرض ومن صاحبها هل هو الشعب العربى الفلسطينى أم هو الشعب اليهودى . وفى ذروة هذا الصراع حول الهوية يبرز صراع الإرادات: من سيكسب ومن سينتصر هل هم الفلسطينيون أم اليهود الإسرائيليون؟
قبل أقل من أسبوعين من موعد انطلاق "مسيرة الأعلام" التى جمعت المتطرفين والمستوطنين اليهود من كافة المناطق للانطلاق نحو المسجد الأقصى والعبث به يوم أمس الأول الأحد (29 مايو 2022) دعت منظمة "لاهافا" الاستيطانية إلى "تفكيك" قبة الصخرة وتدشين "الهيكل" المزعوم فى ساحات المسجد الأقصى. ونشر رئيس تلك المنظمة "بنتسى جوبشتاين" دعوة على صفحات التواصل الاجتماعى "منظمات الهيكل" واليمين إلى الحشد يوم الأحد الفائت، بمناسبة ما يسمونه بـ "يوم القدس" (أى يوم إعلان ضم القدس الشرقية المحتلة الذى يصادف يوم 29 مايو من كل عام) من أجل اقتحام ساحات المسجد الأقصى، وبدء مخطط تفكيك قبة الصخرة بغية الشروع فى تشييد "الهيكل" على أنقاض المسجد الأقصى. وكانت "لاهافا" قد دعت فى شهر رمضان المبارك من العام الماضى إلى "تأديب العرب" ، وعبأت جمهورها وعناصرها لإحضار مسلحين بما يستطيعون من أدوات إلى ساحة باب العامود (باب البراق) بالمسجد الأقصى، وهو ما أدى إلى اشتعال مواجهات هبة باب البراق. وتزامن مع ذلك أن عضو الكنيست إيتمار بن جفير (عن حزب الصهيونية الدينية المتطرف) وزميله فى الكنيست ماى جولان سيقدمان مقترح قانون "عقوبة الإعدام بحق منفذى العمليات (الفدائية)".
وفى ذروة الحشد لمسيرة الأعلام اليهودية بادر نفتالى بينيت رئيس الحكومة الإسرائيلية ظهر أمس الأول الأحد بالدفاع عن مسيرة الأعلام ووصفها بأنها "أمر طبيعى" وقال فى اجتماع الحكومة أن "مدينة القدس لن تقسم أبداً"، وأوضح جوهر ومغزى تلك المسيرة الحاشدة الاستفزازية بقوله "نحيى يوم القدس ليس فقط لتأكيد وحدة عاصمتنا، بل نحيى أيضاً وحدة شعبنا". هنا يربط بينيت بوضوح شديد بين الأرض والشعب ووحدة هويتهما اليهودية، فى تأكيد للتمسك بمضامين "قانون القومية" الذى تأسس على وحدة الهوية للأرض والشعب. هوية يهودية مطلقة على أساس شعب يهودى موحد لأرض يهودية موحدة، بما يتضمنه ويعنيه ذلك من إنكار كامل للشعب الفلسطينى وأرضه المحتلة، وما يتضمنه ويعنيه أيضاً من إنكار كامل لصفة "الاحتلال الإسرائيلى" للأرض الفلسطينية والوطن الفلسطينى. فالأرض، بالنسبة لهم، كل الأرض، هى "أرض إسرائيل" وشعبها اليهودى ، وكل الحروب التى خاضتها إسرائيل هى حروب استقلال، ولا توجد أى أرض محتلة.. لا الضفة الغربية محتلة ولا القدس محتلة، بل هى بالنسبة لهم "أرض إسرائيل" يعيش عليها فلسطينيون لا يمكن الاعتراف لهم بأية حقوق سيادة على أى جزء من الأرض. هنا بالتحديد يختفى نهائياً خطاب "التسوية" و"خيار حل الدولتين" تماماً لأنهم لا يعترفون إلا بـ "دولة واحدة ويهودية" على كل الأرض .
هل سيستطيعون ذلك؟
هذا هو التحدى الذى لا يقدرون عليه، لأن الشعب الفلسطينى يقف على الطرف الآخر من المعادلة وأضحى ينكر هو الآخر أحاديث التسوية والسلام وغيرها من المصطلحات المستهلكة، وأخذ يعد العدة لفرض "خيار الدولة الواحدة الفلسطينية" فالأرض هى أرض فلسطين من النهر إلى البحر والإسرائيليون محتلون استعماريون وحتماً راحلون.
لم يحققوا شيئاً بمسيرتهم وأعلامهم ، وكل ما حققوه أن حفزوا الشعب الفلسطينى على أن يفجر معركة أعلام مضادة، ملأ فيها علم فلسطين سماء القدس ومعظم المدن والقرى ليؤكد أن المعركة مستمرة ولن تتوقف.. إرادة تواجه إرادة .. وهوية تصارع هوية. لم يكتمل المشهد بعد رغم أن مسيرة أعلام الإسرائيليين قد إنتهت . ورد الشعب الفلسطينى بمستوى التصعيد الإسرائيلى. لم تتعجل المقاومة تهديداتها لأن مسيرة الأعلام لم تتجاوز أهدافها المعنوية دون المادية، أى لم تمس الأقصى بسوء رغم كل ما تضمنته من تجاوزات وبذاءات تجاوزت الشعب الفلسطينى إلى كل الشعب العربى بل امتدت إلى نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم.
لقد مرت مسيرة الأعلام الإسرائيلية بكل ما لها وما عليها واحترمت المقاومة التزاماتها للوسطاء الذين وعدوا بأنه "يوم سيمر بكل ما له ما عليه ولا يجب أن يدمر ما تم تحقيقه من انجازات على صعيد التهدئة" رغم ضعف تلك الانجازات وهشاشة تلك التهدئة. الصراع الفلسطينى – الفلسطينى هو أحد جوانب المشهد الصراعى المتفجر حالياً على أرض فلسطين، الجانب الآخر الإسرائيلى ، الإسرائيلى لا يقل أهمية بكل معالمه الواضحة وأبرزها بالطبع عجز الحكم والمعارضة معاً عن إدارة الدولة وسط انقسام بل وصراع سياسى غير مسبوق يضع علامات استفهام قوية على مستقبل كيان الاحتلال.
فقد كشفت استقالة النائبة العربية فى الكنيست (عن حزب ميرش اليسارى" من التحالف الحكومى غيداء ريناوى زعبى قبل أن تعدل عنها بتدخل ووعود استرضائية من نائب رئيس الحكومة يائير لابيد عجز كل من الحكومة والمعارضة عن إدارة الدولة لافتقاد كل منهما الأغلبية المريحة لتولى مسئولية الحكم. فالحكومة الائتلافية الحالية التى تتكون من حوالى ثمانية أحزاب ليس لها إلا 60 نائباً بعد عدول النائبة زعبى عن استقالتها من إجمالى عدد نواب الكنيست البالغ 120 نائباً، فهى من ناحية حكومة هشة بسبب عمق الفوارق السياسية والأيديولوجية بين مكوناتها الحزبية، وهى من ناحية أخرى معرضة للسقوط فى ظل جدية احتمال انسحاب أعضاء آخرين منها.
الحكومة الحالية تضم اليمين المتطرف (حزب يمينا) بزعامة نفتالى بينيت، إضافة إلى حزب يمينى آخر يقوده جدعون ساعر والحزبان منشقان من حزب "ليكود" اليمينى زعيم المعارضة، وهما معاَ يرفضان أى تسوية مع الفلسطينيين ويرفضان بشدة "حل الدولتين" ومتطرفان فى دعم "يهودية الدولة" و"خيار الدولة الواحدة اليهودية" تماماً مثل المعارضة اليمينية المتطرفة. وهناك أحزاب الوسط اليمينى الليبرالى مثل حزب "كحول – لافان" (أزرق- أبيض) بزعامة بينى جانتس وزير الحرب وحزب "يوجد مستقبل" برئاسة يائير لابيد الرجل الثانى فى الحكومة وزير الخارجية ، وحزب "إسرائيل بنيتو" (إسرائيل بيتنا) برئاسة افيجدور ليبرمان وزير المالية، وهذه أحزاب مع حل الدولتين، ثم هناك حزبا اليسار الصهيونى: حزب العمل وحزب ميرتس، ثم هناك حزب القائمة الموحدة للحركة الإسلامية برئاسة منصور عباس ، هذا التكوين الحزبى المتناقض فى رؤاه وسياساته أعجز عن أن يقود إسرائيل إلى طرح مشروع سياسى للصراع مع الفلسطينيين، وأعجز عن إدارة الأزمات ولا يملك أكثر من خيار السقوط الآجل إن لم يكن العاجل.
وضع المعارضة أكثر سوءاً وإن كانت تغلب عليها الكتلة اليمينية المتطرفة التى تضم أربعة أحزاب لها 52 نائباً هى "الليكود" برئاسة بنيامين نتنياهو وحزب شاس لليهود المتدينين وحزب الصهيونية الدينية وحزب يهودوت هاتوراه. إلى جانب القائمة المشتركة العربية التى تخوض المعارضة على أرضية متناقضة تماماً مع الكتلة اليهودية المتطرفة فى المعارضة والحكومة معاً. المعارضة أعجز من أن تستطيع تشكيل حكومة لأن الكتلة اليهودية المتطرفة فيها لا تملك إلا 52 نائباً فقط فى حين يوجد للقائمة المشتركة العربية 6 نواب لن يصوتوا معها إضافة إلى ثلاثة نواب متمردين ليسوا مع الحكومة أو المعارضة.
هذه الخريطة الفسيفسائية للحكم والمعارضة لن تتغير كثيراً حتى مع الأخذ بخيار إجراء انتخابات عامة جديدة، فالعجز سيستمر والتطرف اليمينى سيتصاعد والرد الفلسطينى فى صعود هو الآخر لأن الصراع أضحى صراع إرادات وصراع حول الهويات، وهو صراع لا يقبل إلا بخيار الحسم الكامل للصراع لصالح أى من الطرفين الفلسطينى أو الإسرائيلى.