د. محمد السعيد إدريس يكتب:

مبادرات واشنطن الساخنة فى سوريا

كان ملفتاً أن الإدارة الأمريكية الجديدة اختارت أن ترد فى سوريا على الهجمات الصاروخية التى تعرضت لها السفارة الأمريكية فى بغداد، وقبلها على قواعد عسكرية أمريكية فى مطار أربيل بكردستان العراق وفى شمال شرق العراق. فقد شنت طائرات أمريكية من طراز "اف – 15" هجوماً فجر الجمعة (26/2/2021) . جون كيربى المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أفاد فى بيان أن "القوات الأمريكية نفذت ضربات جوية بتوجيهات من الرئيس بايدن استهدفت بنية تحتية تستخدمها جماعات متشددة مدعومة من إيران فى شرق سوريا" ، وزاد توضيحاً بأن "الضربات دمرت عدة منشآت فى نقطة سيطرة حدودية تستخدمها جماعات متشددة مدعومة من إيران ومنها كتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء".

إذا كانت التنظيمات المستهدفة من هذا الهجوم هى "كتائب حزب الله" ، و"كتائب سيد الشهداء" التى تنتمى إلى مكونات "الحشد الشعبى العراقى" وإذا كانت الاعتداءات وقعت على منشآت عسكرية أمريكية فى العراق فلماذا جاء الرد الأمريكى على سوريا وليس على العراق، حتى وإن كانت الضربات قد استهدفت التنظيمين العراقيين؟

الإجابة التى جرى تداولها تركزت حول أمرين؛ أولهما أن الرئيس بايدن كان ومازال حريصاً على عدم الإساءة لعلاقة رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمى بالتيارات والأحزاب العراقية المناوئة ، وعدم توتير العلاقة بينه وبين إيران فى محاولة لتمكينه من تحقيق إنجازات فى بنود أجندته السياسية، وهذه أمور تخدم مصالح واشنطن مع الكاظمى. أما الأمر الثانى فهو عدم تعكير صفو أجواء استضافة العراق لبابا الفاتيكان، وتأكد هذا الحرص فى التزام واشنطن ضبط النفس على الهجوم الصاروخى الذى تعرضت له قاعدة "عين الأسد" الأمريكية فى العراق بعد أيام قليلة من الهجوم الأمريكى على مواقع التنظيمين العراقيين على الأراضى السورية.

غابت سوريا عن مجال الاجتهاد والتأويل لخلفيات الهجوم الأمريكى ضد "كتائب حزب الله" و"كتائب سيد الشهداء" العراقيتين على الأراضى السورية، الأمر الذى فرض التساؤل المهم: هل فعلاً كانت سوريا غائبة كهدف عن ذلك الهجوم؟

السؤال ضرورى لأن هذا الهجوم جاء باعتباره أول مؤشر أمريكى للتعامل مع سوريا فى ظل إدارة جو بايدن. هل يستهين بايدن بسوريا إلى هذا الحد، أم أن هذا الهجوم يمكن اعتباره إشارة إلى توجه سياسى أمريكى جديد نحو سوريا، ربما يأتى مغايراً عن نهج الإدارة السابقة للرئيس دونالد ترامب، فى ظل حرص إدارة بايدن على "التسخين" فى العلاقة مع روسيا فى كثير من الملفات ربما تكون سوريا هى أحد تلك الملفات؟

ما يزيد خلفيات هذا الهجوم الأمريكى على سوريا أيضاً أنه تم دون إعلام روسيا به على خلاف من هجمات أخرى شنها الأمريكيون فى سوريا عامى 2017 وز2018 كان يتم فيها التنسيق مع العسكريين الروس قبل وقت مسبق مناسب لتفادى حدوث أية احتكاكات ضمن حرص "شكلى" لاحترام مناطق نفوذ كل من الطرفين الأمريكى والروسى فى سوريا. هذه المرة، وباعتراف وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف فى مؤتمره الصحفى مع نظيره الأفغانى، حيث تحدث بضجر قائلاً: "تم تحذير جيشنا قبل أربع أو خمس دقائق.. ولو تحدثنا عن مسألة ما يعرف بعدم التضارب (أو عدم الاحتكاك) كما هو معتاد بين العسكريين الروس والأمريكيين، فإن هذا النوع من الإخطار (الذى حدث هذه المرة قبل دقائق معدودة من الهجوم) لا يعطى شيئاً، عندما وجهت الضربة بالفعل".

هذا يعنى أن الهجوم العسكرى الأمريكى على مواقع التنظيمين العراقيين الذى وقع على الأراضى السورية كانت له خلفياته التى تخص سوريا سواء ما يخص مستقبل الموقف الأمريكى من الوجود العسكرى الروسى فى سوريا، أو ما يخص الموقف من مستقبل التسوية السياسية المحتملة للأزمة السورية، وشروط واشنطن الجديدة للإبقاء على نظام الرئيس بشار الأسد.

هناك دليل إضافى يؤكد ويدعم هذا الفهم هو تزامن ذلك الهجوم الأمريكى الذى نتحدث عنه مع تصعيد أمريكى ضد الرئيس بشار الأسد والنظام السورى تولت مسؤوليته هذه المرة المندوبة الأمريكية الجديدة فى الأمم المتحدة "ليندا توماس جرينفيلد"، فأمام مجلس الأمن الدولى قادت هذه المندوبة الجديدة هجوماً حاداً على كل من نظام الرئيس بشار الأسد وروسيا حول تجديد الاتهامات الأمريكية للجيش السورى باستخدام أسلحة كيميائية ضد مواقع مدنية واتهام روسيا بالدفاع عن النظام والتستر عليه. ففى جلسة لمجلس الأمن (4/3/2021) شنت ليندا توماس جرينفيلد هجوماً عنيفاً على نظام الرئيس بشار الأسد واتهمته بمحاولة "التهرب من المسؤولية عن استخدام الأسلحة الكيمائية، وعرقلة التحقيق المستقل، وتقويض عمل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية". كما اتهمت روسيا بعرقلة محاسبة الرئيس السورى على استخدام تلك الأسلحة. وبعد يوم من هذا الهجوم تحدثت أمام جلسة عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة خصصت لمناقشة حقوق الإنسان فى سوريا وهاجمت النظام السورى على ممارساته "الاستبدادية" ضد المعتقلين وشروطه المجحفة لعودة اللاجئين وقيوده المرفوضة لتوصيل المعونات الإنسانية إلى مناطق الهجرة الداخلية فى المناطق التى تسيطر عليها المعارضة.

كان ملفتاً أيضاً فى كلمة جرينفيلد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قولها "حان الوقت لكى نتوصل إلى حل سياسى فعلى للأزمة السورية"، لكنها لم تشأن أن تقدم أية معالم لذلك الحل الذى تراه الإدارة الأمريكية الجديدة، ولم تشر إلى ما يمكن اعتباره استمرارية أو تغير فى السياسة الأمريكية الجديدة فى سوريا عن سياسة إدارة دونالد ترامب التى كان قد أجملها المبعوث الأمريكى السابق إلى سوريا جيمس جيفرى عقب إعلانه انتهاء مهمته فى سوريا (نوفمبر 2020) بالعناصر التالية: "1- الوجود العسكرى الأمريكى فى شرق سوريا لضمان الهزيمة المستمرة لتنظيم (داعش).

2- دعم الإدارة الذاتية (الكردية) والحوار الكردى – الكردى .

3- استمرار حملة العقوبات الاقتصادية عبر (قانون قيصر) والضغوطات الخارجية على النظام السورى .

4- التواصل مع الدول العربية والأوروبية لمنع التطبيع مع دمشق .

5- تقديم الدعم لتركيا فى شمال غربى سوريا .

6- الدعم لإسرائيل فى غاراتها على (مواقع إيرانية) فى سوريا".

جيفرى الذى كان يعتبر أن محور السياسة الأمريكية فى العراق هى توريط روسيا فى سوريا وجعلها "مستنقعاً" يحول بين موسكو وبين جنى ثمار حملتها وتدخلها فى سوريا، ألمح عند تقاعده عن مهمته أنه يرجح عدم حدوث تغير فى سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة سواء كانت إدارة ترامب أم جو بايدن (كان حديثه قبل إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التى فاز فيها جو بايدن). لكن يبقى السؤال: ما هى جدية هذا الترجيح، وما هى مضامين السياسة الأمريكية الجديدة فى سوريا، فى ظل ما حدث من مبادرات ساخنة حتى الآن بهذا الخصوص؟