د. حسن نافعة يكتب:
الأزمة الأوكرانية بعد الاستفتاء والضم إلى أين؟
دخلت الأزمة الأوكرانية، خصوصا بعد قرار الرئيس الروسي بوتين تنظيم استفتاء في أربعة أقاليم أوكرانية، تمهيدا لضمها إلى روسيا، مرحلة جديدة، ليس من الواضح بعد ما إذا كانت ستفتح الطريق أمام تسوية سياسية باتت ضرورية بحكم الأمر الواقع، أم أنها، على العكس، ستؤدّي إلى تصعيدٍ خطير قد يشعل شرارة حرب عالمية ثالثة، يُخشى أن تستخدم فيها الأسلحة النووية بالفعل، ما يعني انزلاق البشرية نحو مجهولٍ ربما يقترب بها من حافّة الهاوية، ويعرض الحضارة الإنسانية المعاصرة للفناء.
تبلغ مساحة المناطق التي احتلتها روسيا في أوكرانيا حوالي مائة ألف كيلومتر مربع، وهو ما يمثل خُمس مساحة أوكرانيا تقريبا، ويعيش فيها ما يقرب من سبعة ملايين نسمة، يمثلون حوالي 15% من إجمالي سكانها، أغلبهم من أصول روسية ويتحدّثون اللغة الروسية باعتبارها لغتهم الأم. ولأن الأقليم الأربعة التي جرى فيها الاستفتاء، لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا، تمثل مركز الثقل الأساسي للإنتاج الصناعي والزراعي الأوكراني، فسوف يؤدّي سلخها عن الوطن الأم، بصرف النظر عن مدى نجاح روسيا في تحقيق أهدافها، وما قد ينجم عن ذلك من تأثيرات جيوستراتيجية على الصعيدين الأوروبي والعالمي، إلى إضعاف أوكرانيا إلى درجةٍ قد تجعلها غير قادرة على البقاء والاستمرار دولة موحدة ومستقلة في المستقبل المنظور، ما قد يؤدّي إلى تعريضها آجلا أو عاجلا للتجزئة، وربما التهام جيران جشعين لا يُخفي بعضُهم أطماعه في أراضيها. ومن هنا خطورة ما اتخذه بوتين من قراراتٍ لن يكون من السهل على الغرب ابتلاعها. فنجاحه في ضم ما يقرب من خمس الأراضي الأوكرانية لا يعني فقط هزيمةً مؤكّدة لكل الدول الأعضاء في حلف الناتو، خصوصا الولايات المتحدة، وإنما يعني أيضا انتصارا واضحا لروسيا ولبوتين شخصيا.
تركز الدعاية الغربية، في حربها الإعلامية على بوتين، على عدم مشروعية استفتاء يجري تنظيمه في ظل احتلال عسكري غير مشروع أصلا، ورغم أنف الدولة المعنية صاحبة الشأن المعترف لها قانونا بالسيادة على أراضيها وبحقها في الدفاع عن سلامة هذه الأراضي ووحدتها. من هنا التأكيد على بطلانه، والإصرار على عدم الاعتراف بأيٍّ من النتائج التي ستتمخض عنه. صحيح أن هذا الطرح القانوني للقضية لا يخلو من وجاهة، وقد يفيد الدول التي تتبنّاه في التأكيد على حقها، ليس فقط في رفض كل ما يترتب على هذا الاستفتاء من نتائج، ولكن أيضا ما تعتبره واجبها في تقديم كل ما تطالب به أوكرانيا من أوجه الدعم، بما في ذلك الأسلحة النوعية التي تمكّنها من تحرير كل أراضيها المحتلة، غير أن من المشكوك فيه أن يكون له تأثير يُذكر في مسار الأحداث على أرض الواقع، فالرفض الغربي لما تسمّيها روسيا "عملية عسكرية خاصة"، والدعم العسكري المقدّم لأوكرانيا من أجل إفشالها، والذي يتزايد باضطراد، والعقوبات الاقتصادية الشاملة المفروضة على روسيا لحملها على وقفها، والتي تتسع كل يوم كمّا ونوعا، هي وسائل تم استخدامها منذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارة المواجهة العسكرية في أوكرانيا في 26 فبراير/ شباط الماضي، من دون أن تفلح في وقف العملية، ولا في حمل بوتين على التخلى على أيٍّ من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها من ورائها، بل على العكس، يمكن القول إنها زادته إصرارا على مواصلتها، بدليل إقدامه أخيرا ليس فقط على تنظيم استفتاءٍ لضم المقاطعات الأربع السابق الإشارة إليها، وإنما على إعلان تعبئةٍ جزئيةٍ يفترض أن تزوّده بحوالي 300 ألف مقاتل جديد، جاهزين لمواجهة كل الاحتمالات.
سبق لبوتين رفض سياسة "الناتو" التوسّعية نحو الشرق، وكان على قناعة تامة بأنها تستهدف، منذ البداية، احتواء روسيا الاتحادية ومنعها من النهوض مجدّدا
معروف أنه سبق لبوتين رفض سياسة حلف الناتو التوسّعية نحو الشرق، وكان على قناعة تامة بأنها تستهدف، منذ البداية، احتواء روسيا الاتحادية ومنعها من النهوض مجدّدا، تمهيدا لمحاصرتها والضغط عليها، على أمل تفكّكها مثلما تفكّك الاتحاد السوفييتي من قبل. وعندما وصلت موجات التوسع المتلاحقة إلى حدود روسيا المباشرة، وراح حلف الناتو يخطّط ويستعد لضم دول رئيسية كانت فيما مضى جزءا هاما من الاتحاد السوفييتي سابقا، مثل جورجيا وأوكرانيا، وتواكب هذا التطور مع بداية استعادة روسيا قوتها غير المفعّلة طوال سنوات العزلة والانكفاء على الذات، راح بوتين يعبّر علنا عن معارضته الشديدة لهذه السياسة التوسّعية، ولم يكتف بالمعارضة الشفهية وإنما قرن القول بالفعل، ومن ثم لم يتردّد في التدخل عسكريا، عندما اندلعت أزمة في جورجيا عام 2008، انتهت باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا واعتراف روسيا باستقلالهما، ما اعتبره كثيرون نصرا واضحا له. وعندما جاء الدور على أوكرانيا، الأكثر أهمية لروسيا على الصعيد الاستراتيجي بالنسبة له، حاول بوتين أن يدافع عن مصالح روسيا في أوكرانيا عبر الاعتماد على حكومة موالية له في كييف. وحين نجح الغرب في إطاحتها عام 2014، لم يتردّد في التدخل عسكريا لحماية الروس الأوكرانيين الذين استنجدوا به لحمايته من عسف الحكومة الجديدة الموالية للغرب واضطهادها، لتنتهي الأزمة بإعلان انفصال شبه جزيرة القرم، ثم انضمامها إلى روسيا، ما اعتبره كثيرون انتصارا جديدا له. ولأن الأزمة الأوكرانية لم تنته عند هذا الحد، خصوصا بعد رفض الحكومة الأوكرانية تنفيذ اتفاقية مينسك التي تم إنجازها عام 2015 بوساطة ألمانية وفرنسية، فقد كان من المتوقع عودتها إلى الانفجار في أية لحظة، وهو ما حدث بالفعل. إذ تدلّ سياسة الشد والجذب التي اتسمت بها العلاقة بين روسيا وحلف الناتو خلال الفترة من نهاية عام 2014 وحتى إقدام روسيا على عمليتها العسكرية في 26 فبراير/ شباط 2022، على أن روسيا تسعى، منذ ذلك الحين، إلى تحقيق هدفين رئيسيين، وأن بوتين لم يلجأ إلى استخدام القوة إلا بعد إخفاقه في تحقيق أي منهما بالوسائل السياسية والدبلوماسية. الأول: وقف سياسة التوسّع شرقا من حلف الناتو مع التزامه بعدم ضم أوكرانيا لعضويته، خصوصا بعد طلبها الانضمام له رسميا، وتجاوب الولايات المتحدة مع هذا الطلب. الثاني: حماية الأوكرانيين من أصل روسي، والذين وصلت نسبتهم قبل اندلاع القتال إلى حوالي 22% من مجمل سكان أوكرانيا، خصوصا في الأقاليم الشرقية والجنوبية التي يشكلون فيها أغلبية عددية، ووقف الاعتداءات المستمرّة عليهم.
مساحة المناطق التي احتلتها روسيا في أوكرانيا حوالي مائة ألف كيلومتر مربع، ما يمثل خُمس مساحة أوكرانيا تقريبا
ربما يكون بوتين قد خطّط في البداية لعملية عسكرية خاطفة، تستهدف إسقاط حكومة كييف الموالية للغرب، وتنصيب حكومة موالية تبدي استعدادها لتنفيذ اتفاق مينسك، والتعهد بعدم الانضمام إلى "الناتو"، وعندما فشلت خطته الرئيسية قام بتعديلها، وتضمّنت الخطة ب الاكتفاء باحتلال الأقاليم التي تقطنها أغلبية روسية، معرّضة لخطر الاعتداء الدائم، لكن أهدافه ظلت كما هي لم تتغير: أمن روسيا الاتحادية، من خلال المطالبة بضوابط تحدّ من توسع "الناتو" شرقا، وتأمين المواطنين الأوكرانيين من أصل روسي، سواء من خلال حكم ذاتي كامل أو الانفصال وإقامة جمهوريات مستقلة. لذا يبدو لي أن إقدام بوتين على تنظيم استفتاء في هذه الأقاليم يعكس يأسه من إمكانية التوصل إلى أي تسوياتٍ تضمن أمن روسيا داخل حدودها وأمن الروس في أوكرانيا، كما يبدو لي أن إقدامه على التعبئة الجزئية يؤكّد تشبثه الكامل بأهدافه الثابتة، واستعداده التام للدفاع عن حدود روسيا الجديدة، بعد انضمام الأقاليم الأوكرانية الأربعة إلى روسيا. والسؤال: كيف سيتصرّف الغرب بقيادة الولايات المتحدة بعد هذا التطوّر الحاسم؟
الأرجح أن يواصل الغرب سياسته المتمحورة، من ناحية، حول دعم أوكرانيا عسكريا وتزويدها بكل ما يلزم من سلاح لتمكينها من تحرير الأراضي التي ضمّتها روسيا، وكذلك الاستمرار، من ناحية أخرى، في فرض أقصى عقوباتٍ اقتصاديةٍ ممكنةٍ لدفع روسيا نحو الاستسلام، حين تتأكّد من عجزها عن تحقيق أيٍّ من الأهداف التي تسعى إليها، غير أن موقف الغرب بعد قرارات الاستفتاء والضم والتعبئة، يبدو لي أضعف بكثير مما كان قبلها، على الرغم من كل ما حققه الجيش الأوكراني من إنجازات عسكرية خلال الأسابيع التي سبقت هذه القرارات، فبعد الاستفتاء أصبحت الأقاليم المنضمّة هي حدود روسيا الجديدة، وأصبح الجيش الواقف عند هذه الحدود جيشا روسيا، ما سيغير من قواعد اللعبة العسكرية في المرحلة المقبلة، سواء من حيث نوعية الأسلحة المحتمل استخدامها في الصراع، أو من حيث النطاق الجغرافي لهذا الاستخدام، ومن ثم سيكون على الغرب أن يقرّر ما إذا كان سيضطر للتدخل المباشرة في حال وصلت المواجهات العسكرية على الأرض إلى عتبة معينة. على صعيد آخر، لم يعد هناك المزيد مما يمكن عمله في مجال العقوبات، من دون إصابة الاقتصاد العالمي ككل، بما في ذلك اقتصاديات الدول الغربية، بأضرار فادحة. لذا يبدو لي أن الوقت قد حان لبدء الدخول في مفاوضات جادّة للبحث عن تسوية بالوسائل السلمية، وفي موعد أقصاه نهاية العام الحالي (2022)، وإلا فإن خطر المواجهة المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا سيصبح ليس فقط احتمالا واردا، ولكن مرجّحا أيضا. وهذه هي الكارثة التي أصبح العالم يقترب منها، وبأسرع مما كان متصوّرا. ولأن الصراع الدائر فوق الساحة الأوكرانية يتعلق برفض القواعد السائدة في النظام الدولي الحالي، ينبغي ألّا تقتصر التسوية المطلوبة على الأوضاع المتعلقة بالأزمة الأوكرانية، وإنما أن تتجاوزها للاتفاق على قواعد جديدة لنظام دولي لا يمكن إلا أن يكون متعدّد القطبية.