هيثم الزبيدي يكتب:
أكثر من حفاوة سلطانية في استقبال الشيخ محمد بن زايد
كانت الحفاوة التي استقبل بها الشيخ محمد بن زايد في مسقط لافتة. منذ لحظة دخول طائرته الأجواء العمانية، وتحليق المقاتلات العمانية برفقتها، كان واضحا أن صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين قد فتحت. ثمة قرار بادي المعالم اتخذه السلطان هيثم بن طارق بأن طورا مختلفا لطبيعة العلاقة بين البلدين الجارين قد تم تأسيسه. كان التجاوب الإماراتي مع المسعى العماني ملموسا ويحمل الكثير من الدلالات.
ثمة عوامل كثيرة ساعدت على هذا التقارب. التقارب هو جزء من تغيير واضح في منطقة الخليج، لا يمكن وضعه في إطار رحيل قيادات ووصول قيادات غيرها إلى سدة الحكم. لا شك أن أيّ تغيير في رأس هرم السلطة يفتح الباب إلى تغيير في السياسات أو تعديلها بالحد الأدنى. ولكن هذه المعادلة لا تصح دائما، كما كان مثال التغيير في قطر عام 2013 الذي أبقى الأمور على حالها.
اختطّت عمان الحديثة سياسة مستقلة بشكل كبير عن نسق السياسات في الخليج. حرص الراحل السلطان قابوس بن سعيد أن يميز الوضع العماني عن بقية سياسات دول مجلس التعاون الخليجي. بدأ الأمر مبكّرا في الكثير من المواقف السياسية العمانية، ومنها الموقف من اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ورفضه مقاطعة مصر عربيا. ثم جاء الموقف الأكثر تفردا في العلاقة مع إيران الشاه أولا، ثم إيران الثورة من بعده. ومن جهة أخرى، كانت الحساسيات العمانية على الأرض ملموسة. الخلاف على الحدود مع دول المنطقة أصبح جزءا من التذكير بأن العلاقات مع هذه الدول لم تصل إلى مرحلة الصفاء. ثم جاء عاملان إضافيان في السنوات العشر الأخيرة لزيادة تعقيد المشهد. مرض السلطان قابوس وما انعكس بسببه على السياسات من جمود، وحرب اليمن. لم تخف مسقط عدم ارتياحها من حرب اليمن، وإن اعتمدت منطق الوساطة بين التحالف والحوثيين. لكنّ حربا على حدود أيّ بلد لن تكون إلا مناسبة للنظر في الأمر بحسابات لا تتطابق بالضرورة مع حسابات أطراف الحرب. المهرة وحضرموت قريبتان جدا جغرافيا وبشريا من عمان. التباين في المواقف لم يخرج إلى العلن إلا في مناسبات معدودة وبشكل دبلوماسي تم تجاوزه سريعا. لكن التوتر بقي حاضرا.
سنوات الحرب الطويلة في اليمن عدّلت الكثير من المعطيات. تغيّرت أولويات التحالف، ودخلت أسلحة جديدة زادت من التهديد الحوثي على المنطقة. ومثلما لم تكن مسقط تنظر بارتياح إلى مسار الحرب في اليمن، لا شك أنها أدركت أن الانتشار الواسع لسلاح المسيّرات والصواريخ الإيرانية واستخدام الحوثيين لهما في استهداف السعودية والإمارات، هما مصدر قلق لأنه دعوة لتوسيع جغرافية الحرب لصالح إيران أولا. العلاقة العمانية – الإيرانية المميزة لا تكون على حساب علاقة عمان مع الأشقاء الخليجيين. جاء التغيير في قمة رأس السلطة في عمان متزامنا مع هذه التغييرات الإستراتيجية على الأرض. كانت خارطة السياسات في المنطقة في أوج تعديلاتها.
من أهم نقاط التعديل كان موقفا إماراتيا متسارعا في تصفير المشاكل. الهزيمة السياسية لمشروع الإخوان المسلمين فتحت الباب للتهدئة. استقر الوضع بمصر وانكمش الدور التركي مع انشغال الرئيس رجب طيب أردوغان بمشاكله الاقتصادية وكانت هزيمة الإخوان/الإصلاح في اليمن مسألة وقت. ثم جاءت هدنة قمّة العلا لتضع الأمور في نصاب جديد. وفي أكثر من مناسبة، ألمحت القيادة الإماراتية بأنها لا تسعى لرؤية تغيير في إيران يقلب الأمور رأسا على عقب، بل كانت تريد تغييرا في السياسات نحو أسلوب التعايش بدلا من الإصرار على التصعيد.
الانطلاقة الإماراتية الجديدة مع عمان كان أساسها أن لا مشاكل بالأصل تحتاج إلى تصفير. القلق العماني من الحدود الغربية مع اليمن مشروع ويمكن التوصل إلى ترتيبات تساعد في التخفيف من هذا القلق. هموم عمان الأولى تتركز في الشأن الاقتصادي بعد تذبذبات في العائدات من النفط ضغطت بشدة على الميزانية العمانية. الدعم الخليجي لم يكن بمستوى التوقعات. هذا ما كان في ذهن القيادة في الإمارات. وخلال فترة قصيرة تحول الاهتمام الإماراتي إلى تقارب ملموس يعززه الحضور بالتمويل والاستثمار في مشاريع كبرى مثل ربط سكة الحديد بين ميناء صحار العماني والإمارات. صحار خارج عنق الزجاجة في مضيق هرمز وبعيدة بما يكفي عن التهديد الإيراني. ثم كيف يمكن لإيران أن تهدد باستهداف ميناء لبلد قريب منها سياسيا مثل سلطنة عمان.
الآن تشترك الإمارات وعمان بمبدأ واحد في العمل الإقليمي. من حق أيّ دولة خليجية أن يكون لها موقفها المستقل الخاص من قضايا سياسية أو إقليمية أو دولية. هذا الموقف لا يعني انعدام التنسيق المشترك بين دول المنطقة، حتى بالقضايا الخلافية. مثل هذا المبدأ مارسته الإمارات في اليمن في علاقتها مع الحليف السعودي. كان الهدف هو تطويق الخطر الحوثي وقد قاتل الطرفان لتحقيق هذه الغاية بنجاح. لكن كل من الحليفين اختط طريقته في معالجة تطوّرات الموقف على الأرض. معطيات جنوب اليمن غير معطيات شماله، وهو ما أفرز لغطا في بعض الأحيان ثبت أنه ليس في محله. الحليفان اليوم في ذروة التنسيق لترتيب أوراق الشرعية واستبعاد حزب الإصلاح من المعادلة والعثور على حل توافقي بين قوى الجنوب والشمال، وحلّ ضمن الشرعية الدولية لا يستبعد الحوثي باعتباره قوة حقيقية موجودة على الأرض.
التقارب السعودي – التركي وفتح باب النقاش بين الرياض وطهران حول المشاكل الإقليمية يوحيان بأن القيادة السعودية تميل بدورها إلى مبدأ الموقف الخاص في سياق التنسيق المشترك مع الأشقاء. مثل هذا الموقف سيسهّل إلى حد كبير من مسيرة العمل الخليجي المشترك، على الأقل إلى حين أن تتمكن قطر من الخروج بما يكفي من فلك سياسات التصعيد، وإلى حين أن تنجو الكويت بنفسها من دوامة أزماتها السياسية.
الحفاوة السلطانية بزيارة الشيخ محمد بن زايد لحظة تأسيسية في مسار علاقة تاريخية طويلة من الواضح فيها الآن أن الطرفين حريصان على تجاوز كل معرقلات الزمن الماضي.