نديم قطيش يكتب:
ملامح أولية حول إعادة تشكيل النظام الدولي
طال الأمر أم قصر، فإن العالم يعيش لحظة استثنائية يختصرها مشهد شبه حتمي:
طهران وموسكو تغرقان، وبأزمات من صنعهما.
لا أذكر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غادر ملامح البرود الجليدي التي تطبع ملامحه، أمام عدسات الكاميرات، كما فعل وهو يهتف باسم روسيا في ختام مراسم توقيع معاهدات ضم أربعة أقاليم أوكرانية إلى روسيا، هي لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوريجيا. كأن ضجيج الهتاف والتصفيق داخل إحدى قاعات الكرملين، كان بهدف التغطية على ضجيج التراجعات العسكرية الميدانية لجيش موسكو في مواجهة الهجوم الأوكراني المضاد، شرق أوكرانيا، المدعوم من واشنطن وحلف الناتو، بالعتاد والمال والتنسيق المعلوماتي والاستخباراتي.
ويؤشر التلويح باستخدام الأسلحة النووية بالتزامن مع نكسات الميدان إلى حجم القلق الذي يعتري بوتين بشأن عملياته العسكرية، وهو القلق الذي تشاركه إياه قطاعات شعبية في الداخل عكستها حال الهلع التي انتابت الأسر الروسية، بعد الإعلان عن التعبئة الجزئية لإسناد المجهود الحربي. لقد انتشر كالنار في الهشيم تعليق منسوب إلى المعارض الروسي الشرس ميخائيل خودوركوفسكي يقول: «روسيا هي على الأرجح الدولة الأولى في العالم التي يفر منها الناس ليس لأن شخصاً ما غزا بلدهم، ولكن لأنهم غزوا بلداً آخر».
معلوم أن الحرب جولات، وما هو معطيات ميدانية اليوم، قد يكون عكسه غداً، بيد أن الأمر لا يتوقف عند الميدان.
رغم ضخامة التسويق لولادة أحلاف جديدة على المسرح الدولي، والمبالغات في تحليل اللقاءات والقمم والاتصالات الجارية، يُظهر التدقيق في المواقف أن ما يبدو من اصطفاف صيني - هندي إلى جانب روسيا، تعتريه الكثير من الاعتبارات التي تقلل من فاعليته والتأسيس بالتالي لتوازن دولي جديد ومستدام.
في اجتماعات «منظمة شنغهاي للتعاون»، في عاصمة أوزباكستان، سمرقند، اضطر بوتين أن يقول لنظيره الصيني وهو يثني على موقف بكين «المتوازن» بشأن النزاع الروسي - الأوكراني، بأنه يتفهم «أسئلة وهواجس (الصين) في هذا الصدد».
في الاجتماع نفسه سمع بوتين من نظيره الهندي ما يشبه التأنيب حين توجه رئيس الحكومة ناريندا مودي إليه بالقول: «اعلم أن هذا الزمن ليس زمن الحرب، وقد تحدثت إليكم عبر الهاتف حول هذا الأمر».
استفادت الصين والهند من النزاع الروسي الأوكراني، واستثمرتا في شراء النفط الروسي بحسومات كبيرة، كما تلذذتا بحجم الإهانات التي وجهت «للتكبر الأميركي» عبر هذه الحرب، وراهنتا معاً على متغيرات لا بد ستصيب تركيبة النظام الدولي وتوازناته وتوزيع الأدوار داخل مؤسساته. لكنهما على عكس روسيا لا ترغبان في هدم الهيكل الذي استفادتا منه، بشكل عشوائي ويائس.
كما أن الشكوك المتبادلة بين بكين ونيودلهي أكبر بكثير من أن تفضي إلى ولادة محاور ثابتة، أو أن تبددها تقاطعات ظرفية عبر الموقف من النزاع الروسي الأوكراني، دعك عن أن تحول روسيا إلى ورقة بيد الصين مقلق للهند، التي كانت قد بدأت قبل الحرب في خفض التبادلات التجارية مع روسيا والبحث عن مصادر أخرى للسلاح والطاقة.
حتى حين امتنعت الصين والهند عن التصويت على قرار يدين ضم موسكو للأقاليم الأوكرانية الأربعة، أعقبت ذلك بتصريحات محددة. فقد اعتبر مندوب الصين لدى الأمم المتحدة أن بلاده تعتبر أن «السلام الإقليمي وسيادة كل الدول ينبغي الحفاظ عليهما وصونهما»، في حين دعت الهند إلى وقف فوري لإطلاق النار واحترام «سيادة وسلامة أراضي جميع الدول».
بدايات إعادة التموضع هذه لدول كبرى، بعد نحو 8 أشهر على بدء النزاع انسحبت أيضاً على الدول الخليجية صاحبة التأثير الكبير في سوق الطاقة، كما على إسرائيل التي، بسبب «غربيتها»، تربك الغرب على جانبي الأطلسي إن بالغت في مسايرة موسكو، وتعطي بوتين مقداراً من الشرعية السياسية والأخلاقية التي لا ينبغي أن يتمتع بها.
خليجياً، مثلت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى عدد من العواصم الخليجية، بداية حوار من نوع مختلف بين أوروبا ودول الخليج يتمحور حول الأدوار التي يمكن لهذه الدول أن تلعبها من موقع المسؤولية الأممية لمواجهة «عسكرة الطاقة» التي تمارسها روسيا عبر قطع الغاز عن أوروبا، بغية تحقيق مآرب سياسية. ففي أبوظبي وقع الطرفان الإماراتي والألماني اتفاقية تنم عن «شراكة استراتيجية جديدة في مجال تسريع أمن الطاقة والنمو الصناعي» تقضي بتزويد ألمانيا بالغاز الطبيعي المسال بدءاً من أواخر العام الجاري، بالإضافة إلى البدء الفوري بتسليم ألمانيا شحنات من الديزل والاتفاق على شروط توريد ما يصل إلى 250 ألف طن شهرياً من وقود الديزل خلال عام 2023.
إننا بإزاء إعادة تموضع بطيء ولكن ثابت الاتجاه حول إعادة تشكيل النظام الدولي، أقله كما تفهم روسيا إعادة التشكيل، أي ضرب لكل أسس النظام الدولي ومرتكزات الشرعية فيه.
أما إيران فحالها أسوأ بما لا يقاس، في ظل انفجار غير مسبوق للمظاهرات فيها، انطلقت من مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني، وسرعان ما توسعت لتتحول إلى ثورة مضادة ضد النظام بكامل رموزه.
تتكامل انتفاضة الإيرانيين مع ما يجري في العراق بشكلٍ رئيسي ولبنان على نحو أقل، حيث يبدو المشروع الإيراني محاصراً إما بقوى اعتراض جدية ومثابرة، وإما بالصورة الفادحة للفشل السياسي والخدماتي والمالي والاقتصادي لزبائن إيران الممسكين بالسلطة، وإما الاثنين معاً.
يحصل ذلك في لحظة اعتلال صحة المرشد علي خامنئي، الذي بات كناية عن اعتلال نظام الثورة نفسه، كأن جسد خامنئي الهزيل هو مجرد تجسيد تعبيري لهزال نظام الثورة بمؤسساته وأفكاره ومشروعه.
الترنح المزدوج لنظامي الشغب الإقليمي والدولي الأبرز، يمثل لحظة غير مسبوقة في تاريخ توازنات العلاقات الدولية ويمهد لمرحلة جديدة، من الصعب الآن تصور السوية التي سترسو عليها. الأكيد أن الغرب لا يزال يمتلك كل الأدوات لأن يكون الشريك الحاسم في تشكيل المستقبل وقواعده، وتقديم الضروري من التنازلات لإعادة الاعتبار للأمن والاستقرار العالميين. لقد طرح الرئيس الأميركي جو بايدن فكرة الحاجة إلى إصلاح مجلس الأمن، وهو تصريح ذو حدين، يحمل تحذيراً للصين بأن دورها الأممي يتطلب التصرف بمسؤوليات أكبر، ويحمل إغراءً للهند بأن مطالبها المزمنة بأن تعامل بمساواة تليق بحجمها تلقي آذاناً مصغية.
إنها ملامح أولية لبعض ما سيتغير في العالم والذي أسهمت فيه بين عوامل كثيرة أخرى، سياسات إيران وروسيا.
ولكن للمفارقة، ففي تغير سلوك هاتين الدولتين الكثير من قواعد العالم ومهدتا ربما لولادة عالم جديد، فإن نظاميهما لن يكونا عضوين فيه على الأرجح.