فيليب سالم يكتب:

انتخاب رئيس جديد! أم خلق لبنان الجديد؟

 وحده لبنان من بين دول العالم كله يحتضن دويلة. جيشان مختلفان يقبضان على الأرض؛ والقرار السياسي تقبض عليه الدويلة. ونحن هنا نتكلم بالطبع، على دويلة حزب الله التي تجسّد الحضور السياسي والعسكري في لبنان لدولة الثورة الإيرانية الإسلامية. هذه الدويلة هي جزء، بل أهم جزء، من التمدّد الإيراني في الشرق، وهي لا تمتلك قوة عسكرية كبيرة فقط بل تمتلك أيضًا أيديولوجية متطرفة يمتزج فيها الدين بالسياسة وتمتزج فيها السياسة بالعنف. أيديولوجية هي على نقيض رسالة لبنان ومعناه؛ ولذا فهي تشكّل خطرًا وجوديًا ليس فقط على هوية لبنان السياسية بل على ما هو أهم وهو هوية لبنان الحضارية. إن لبنان قادر أن يبقى على قيد الحياة وإن تغيّرت هويته السياسية ولكنه يزول إذا تغيّرت هويته الحضارية. فالحضارة، لا السياسة، هي التي تحدد هوية لبنان الكيانية.


في السنوات الست التي مضت، تمكّنت الدويلة من إخضاع الدولة لمصالحها والإمساك بجميع مفاصل مؤسساتها. لقد زالت الحدود بين الدولة والدويلة، وأصبحت الدويلة هي الدولة. هذه هي هوية الأزمة. وما هذا الانهيار السوريالي الذي نشهده إلا النتيجة الحتمية لفشل السياسة. وما الفساد المالي والاقتصادي الذي نعانيه إلا واحد من التداعيات الكثيرة والكبيرة للفساد السياسي. ان بيت الداء ليس في الاقتصاد والمال، بل هو في السياسة. لقد فشل السياسيون اللبنانيون في الحفاظ على الأمانة، على لبنان. لقد باعوه على مذابح مصالحهم الشخصية وطموحاتهم السلطوية. لم يكن ذلك خطأ بل كان خطيئة. وإن غفر لهم لبنان فنحن يجب أن لا نغفر لهم أبدا.


إننا نعتبر أن الخطوة الأولى في عملية إنقاذ لبنان هي رفع يد المقاومة الإسلامية عن عنق لبنان وتحرير قراره. كما أننا نعتبر أن المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للبلاد هي الفرصة التاريخية لخلق لبنان جديد. هي التوبة عن خطايانا والمعمودية الثانية لولائنا للبنان. من أجل ذلك جئنا نطلب من نواب الأمة، وهذا أقل ما نطلبه، انتخاب رئيس جديد لا يتلحف بعباءة حزب الله. وليكن واضحا أن الانهيار سيكمل طريقه بانتخاب رئيس متزلم لحزب الله. نحن نريد رئيسًا جديدًا يجرؤ أن يقول لا. يجرؤ أن يقول لحزب الله وحلفائه "أرفعوا أيديكم عن لبنان". رئيس جديد يجرؤ على "ترسيم الحدود" بين الدولة والدويلة. رئيس جديد لبناني الهوية والولاء. رئيس يقدّس سيادة لبنان، ويحترم نفسه كما يحترم كرامة شعبه. وبقدر ما نريد أن يكون هذا الرئيس قويًا في رفضه هيمنة الدويلة على الدولة، لا نريده قويًا في عدائه لها. إن شعارنا كان وسيبقى، أن ليس لنا أعداء بين اللبنانيين. نحن وهم أهل هذه الأرض. وبالتالي نحن لا نريد رئيس مواجهة أو رئيس تحدٍ. نريد رئيسًا قادرًا على الحوار مع حزب الله والعمل معه ليصبح هذا الحزب تحت سقف الدولة لا فوقها. هذه المعادلة الجديدة بين قوة الرفض عند الرئيس الجديد وقوته في إرساء الحوار في الوقت نفسه، هي سر قدرته على إنقاذ لبنان. نحن نرفض بقوة رئيسًا يأخذنا إلى الفتنة مع حزب الله. لقد شبعت هذه الأرض حروبًا وتَعِبَ اللبنانيون من النزاعات. لقد آن الوقت لتصويب البوصلة نحو قيامة لبنان لا نحو النزاعات الدامية. من هنا، ومن هذا الحضيض الذي نحن فيه، ندعو حزب الله إلى التقاط هذه الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر، إلى الاتفاق على عقد جديد مع لبنان. ونقترح أن يرتكز هذا العقد على البنود التالية: أولاً، عودة الحزب إلى حضن لبنان والتخلي عن تنفيذ الأهداف الإيرانية في الشرق. ثانيًا، وقف النزاعات المسلحة والعسكرية مع إسرائيل، والعودة إلى اتفاق الهدنة. ثالثًا، إيجاد حل لموضوع السلاح. نقول "بإيجاد حل للسلاح" ولا نقول "بنزع السلاح". لأن كلمة "نزع" تعني استعمال القوة، وهذا ما نرفضه. نحن نعرف أن موضوع السلاح هو موضوع شائك ومرتبط مباشرة بقرار من الحرس الثوري الإيراني في طهران، وليس بقرار من حزب الله في لبنان. لذا لن يكون الحلّ بتوافق داخلي فقط بل بتوافق إقليمي دولي أيضًا. ولن يكون هذا العقد الجديد ممكنًا إلا إذا تمّ برعاية دولية تكون واحدة من المبادرات التي نأمل أن تصدر عن المؤتمر الدولي الذي نطالب بعقده من أجل إنقاذ لبنان. مؤتمر دولي يؤمن الدعم لسيادة لبنان واستقلاله وحياده، كما يؤمن الدعم الاقتصادي بوضع خطة "مارشال" جديدة للبنان.

ونتمنى أن لا يكون الرئيس الجديد خريج المدرسة اللبنانية السياسية التقليدية التي تمجّد الفشل، والتي تؤمن بأن الحكم هو جاه وعزّ وليس مسؤولية؛ مسؤولية صنع المستقبل. كما تؤمن بأن الشعب هو خادم الحاكم وليس العكس، وبأن الفساد شطارة، وأن "الذكي" هو من يعمل لإعلاء شأنه هو وليس شأن شعبه. كثيرة هي خطايا هذه المدرسة، فهي التي رعت مفهوم "الزعيم". هذا "الزعيم" الذي يعرقل بناء الدولة لأنه يعيش على حطامها، وهو الذي يحطّم كرامة المواطن لأنه يعيش على إذلاله. كما رعت هذه المدرسة ترسيخ انتماء المواطن إلى طائفته بدل أن يكون انتماؤه لوطنه. كانت هذه المدرسة ولا تزال سببًا رئيسًا في انهيار لبنان وشلّ قدرته على التقدم وعلى الحياة. من هنا أهمية إحياء الثورة ودعمها. فالهدف الأساسي للثورة ليس إطاحة السياسيين التقليديين الفاسدين بقدر ما هو إطاحة الفكر السياسي التقليدي الذي يعتنقه الشعب اللبناني والذي أفرز هذه الطبقة من الحكام. ونحن إن لم نتمكن من إطاحة هذا الفكر فلن نتمكن من إطاحة ناسه. لذلك وجب على الرئيس أن يحمل رسالة الثورة.

ولن نغوص في مواصفات شخصية الرئيس، لكننا نودّ أن نسأل هؤلاء الذين يطالبون برئيس توافقي: إلى أين وصلنا بالسياسات التوافقية؟ وإلى أين وصلنا بالديموقراطية التوافقية؟ ها قد وصلنا إلى مكان لم يصل اليه سوانا. يقول فولتير: "يصعب عليّ أن أحدد صفات القائد، ولكنني أعرف جيدًا أن من يتوافق عليه جميع الناس ليس قائدًا". في هذه الظلمة التي نعيشها، نحن بحاجة إلى رئيس قائد، يقودنا إلى الضوء، لا رئيس توافقي يبقينا في الظلمة. وقد تكون القدرة على القيادة أهم صفة يتمتع بها الرئيس. القيادة هي كل شيء، من دونها لا يمكنك أن تصل إلى مكان أو أن تحقق أي شيء. وماذا نعني بالرئيس القائد؟ نعني أنه الرئيس القادر على الإرتقاء إلى أعلى من شخصه، إلى لبنان. الارتقاء إلى أعلى من مصلحته، إلى مصلحة اللبنانيين. القائد هو ليس من يقف على مسافة واحدة من الجميع. بل هو من يعلو فوقهم ويقودهم إلى السلام والحياة. وهو من لا يكون بين شعبه من هم اهله ومن هم ليسوا أهلاً له. القائد هو الذي يمتلك رؤية لإنقاذ لبنان ويعرف الطريق للوصول إلى هذه الرؤية. وهو كذلك الذي يمتلك الشجاعة ولا يخاف من الذين يريدون اغتياله وهو على الطريق لتحقيق رؤيته.

وثمة من يسأل، وبعد كل الذي جرى، هل يحق لنا أن نحلم بقيامة لبنان؟ كيف لا، ونحن قادرون أن نحوّل هذا الحلم إلى حقيقة. الإحباط لا يصنع المستقبل. وحدهم الذين يحلمون يصنعونه. وبعد ذلك تبقى الصلاة. والصلاة "أن يذكرنا الرب الإله في ملكوته"، وان "يتعهد هذه الكرمة التي غرستها يداه". هذه الكرمة التي ملأها بالمجد والجمال. يبقى علينا نحن أن نحافظ على هذه الكرمة. ويجب أن لا ننسى ما قالته أم الملك لابنها عندما رأته يبكي بعد سقوط الأندلس. قالت: "إبكِ مثل النساء ملكًا مُضاعًا... لم تحافظ عليه مثل الرجال".

سقطت الأندلس، ولكن لبنان لن يسقط. كثيرون يحبونه. وليس عندنا فرق بين النساء والرجال. نساؤه ورجاله حاضرون للاستشهاد في سبيله.