هيثم الزبيدي يكتب:

هذه بتلك؛ هل يمكن فتح صفحة جديدة للعلاقات الخليجية الأميركية؟

أول ما يسترعي انتباهك في ردود الفعل على تخفيض أوبك+ لمعدلات الإنتاج النفطي، أنها كانت ردود فعل أميركية. لم يبق مسؤول أميركي، من الرئيس إلى كبار الوزراء والمسؤولين، إلا وتحدث أو علّق على الأمر. الولايات المتحدة بالطبع هي أكبر منتج للنفط في العالم، وأكبر دولة مستهلكة له. لكنها منذ سنوات توقفت عن استيراد النفط الخام من الخارج بعد أن استثمرت الشركات الأميركية بكثافة في إنتاج النفط الصخري، وساعدت التقنيات الحديثة في إحياء الآبار القديمة، وتوسعت المسوح الزلزالية للوصول إلى حقول جديدة. الولايات المتحدة مكتفية ذاتيا في مجال النفط، بل وتبيع الفائض إلى الخارج.

لكن واشنطن ليست مكتفية سياسيا. حتى من قبل نهاية الحرب الباردة وتفرد الولايات المتحدة بالعالم كقوة عظمى وحيدة، كانت واشنطن تمارس سياسة الإملاءات في العديد من القضايا السياسية والاقتصادية عالميا. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وهزيمة العراق في حرب الكويت، تحولت الإملاءات إلى هيمنة. ومع القوة السياسية والعسكرية والصناعية والمالية والثقافية، استحوذت أميركا منذ مطلع التسعينات على مقدرات الثورة التكنولوجية في عالم الاتصالات والمعلوماتية. بعض عناصر هذه القوة تم بنوع من الإكراه للآخرين، والبعض الآخر حدث باستحقاق نتيجة الاستثمار الأميركي طويل الأمد في التعليم والابتكار. لأكثر من عقدين، سادت الولايات المتحدة على مقدرات العالم. ثم جاءت الهزة المالية الكبرى عام 2008، وبدأ مسلسل الانحدار الأميركي، والغربي عموما، ليستكمل ماليا ما بدأ عسكريا وإستراتيجيا بغزو العراق.

لا تشتكي الدول الغربية الكبرى من قرار أوبك+. ولا تشتكي دول شرق آسيا، الزبون الأكبر للنفط الخليجي، من القرار. لكن أميركا تتشكى وتهدد بالرد. البعد السياسي الآني لا شك حاضر في تشكي واشنطن. انتخابات الكونغرس النصفية على الأبواب، وأوقعت إدارة جو بايدن نفسها في ورطة المبالغة بربط أسعار البنزين والديزل في محطات الوقود بمدى رضا المواطن الأميركي عن الإدارة. صار السعر الذي يدفعه الأميركي لملء خزان سيارته هو المؤشر الذي يقود قراره بأن يترك الديمقراطيين في هيمنتهم على الكونغرس أم لا.

لكن البعد السياسي الأهم يتجاوز موقف الإدارة الحالية. السنوات العشرة الأخيرة شهدت انفراطا في قدرة الولايات المتحدة في فرض سيطرتها عالميا. سوء التقدير الأميركي متعدد الأوجه، وقد تسبب في أزمات كبيرة في أكثر من منطقة في العالم. قبل أزمة أوكرانيا التي تعتبر موسكو أن سببها هو تمدد الناتو إلى حدودها، وقبل أزمة تايوان التي في أساسها مشروع أميركي لاحتواء الصعود الصيني عالميا، كانت هناك أزمة التعامل مع الخطر الإيراني في الخليج. فبموازاة العبث الأميركي بمقدّرات الشرق الأوسط من خلال بدعة الديمقراطية الإسلامية على يد الإخوان من خلال زلزال الربيع العربي، تركت الولايات المتحدة الفرصة لإيران كي ترسم خارطة جيوسياسية مختلفة للشرق الأوسط. تم تسليم العراق لإيران وترك الحوثي ليؤسس للطوق الإيراني الجنوبي لدول الخليج، بالإضافة إلى حزب الله المخضرم في لبنان والتواجد الفعلي للحرس الثوري في سوريا. وصل الاستخفاف الأميركي بأمن الخليج إلى أقصى مدياته عندما مرّ هجوم المسيّرات والصواريخ على منشآت إبقيق النفطية في السعودية دون أي رد أميركي.

المسؤولون الأميركيون اليوم يبحثون عن رد مناسب على إجراء أوبك+. لا شك أنهم لا يقصدون روسيا باعتبارها على قائمة العقوبات أصلا. هم يقصدون السعودية بالدرجة الأولى والإمارات من بعدها. هناك 13 عضوا في أوبك و11 عضوا آخر في أوبك+. لكن الاستهداف السياسي الأميركي موجه إلى أهم عضوين في أوبك. وما لم تقله إدارة بايدن مباشرة، تركته لأعضاء في الكونغرس ليتحدثوا عن إيقاف التسليح وسحب القوات. الحجة، هي أن المنتجين الخليجيين لم يقفوا مع الولايات المتحدة في “محنة” أسعار النفط. وإذا وضعنا المصلحة الذاتية للسعودية والإمارات وبقية دول أوبك+ في أن تبيع بأسعار أعلى وتحقق واردات أكبر من منطق تجاري بحت، فهل السعودية والإمارات ملزمتان بالوقوف مع واشنطن في محنتها؟

يمكن وضع السؤال نفسه ولكن بطريقة معكوسة: هل وقفت الولايات المتحدة مع السعودية والإمارات في محنتهما جراء التهديد الإيراني؟ الجواب في إبقيق وفي سماء الرياض وأبوظبي كان واضحا. استعراض القوة الإيراني مستمر منذ سنوات عبر المسيّرات والصواريخ، وها هو الحوثي يعود إلى تهديداته مع أول بادرة لاهتزاز الهدنة في اليمن. ومع الاستعراضات الإيرانية المتعددة، كان التردد الأميركي في مواجهتها أكثر من ظاهر. فكرة الحماية الأميركية للخليج لم تعد موثوقة بأقل اعتبار.

لكن ما على المحك الآن ليس الحماية الأميركية لدول الخليج. ما على المحك هو النظرة العدائية المتزايدة من الولايات المتحدة لتلك الدول “الحليفة”. واشنطن عدوّ خطر ومؤذٍ. التلويح بقرار مقاومة الاحتكار “نوبك” هو إشارة أولى لما يمكن أن تذهب إليه الإدارة الأميركية بالتعاون مع الكونغرس، من مدى في معاقبة “الحلفاء”. مضايقة دول الخليج سياسيا لها بوابات عديدة، شهدنا منها ملمحا إعلاميا في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وكل ما صاحبها من تشهير. هل يمكن لمؤسسة الحكم الأميركية أن تقبل قرار أوبك+ الأخير، على الرغم من ذهاب الرئيس بايدن شخصيا إلى جدة قبل أسابيع قليلة، طالبا أن تزيد دول الخليج من إنتاجها النفطي، فيأتيه الرد بتخفيض الإنتاج؟

اللوبيات الخليجية في واشنطن قوية ونافذة. من المؤكد أن هذه اللوبيات على اطلاع بما يدور في ذهن مؤسسة الحكم الأميركية، وهي مؤسسة عميقة أكبر بكثير من الإدارة الأميركية. ولعل مستشاري دول الخليج من السياسيين الأميركيين السابقين والخبراء، يعطون تصورات أكثر اكتمالا مما يتم ترويجه عبر وسائل الإعلام أو من خلال تصريحات كبار المسؤولين. وربما تتمكن هذه اللوبيات من التأثير وتهدئة النفوس. لكن من الضروري للقيادات الخليجية أن تتحسب لردود فعل مؤلمة.

لعل هناك من يتقدم ليقول: واحدة بواحدة؛ خذلتمونا يوم تركتم إيران تتحكم بمصائر المنطقة، وها نحن نخذلكم عندما جاء النداء للوقوف معكم في مواجهة موسكو وفي مطلبكم بأن نضخ نفطا أكثر. هذه بتلك، فهل يمكن أن نفتح صفحة جديدة في العلاقات؟