فاروق يوسف يكتب:
تسييس الرياضة أم ترويض السياسة
كان مونديال قطر مناسبة لتكرار محاولات النأي باللقاءات الجماعية العالمية ثقافية أو رياضية أو علمية عن السياسة وأهدافها الخفية التي لا يُعول عليها على مستوى بناء لغة مشتركة بين سكان هذا الكوكب. غير أن السياسة تأبى أن يتم نسيانها أو ركنها جانبا ولا تحترم أي نزعة للاستقلال عنها وإهمالها كما لو أنها جزء من كل وليست الكل الذي يفرض هيبته على الأجزاء.
يقول السياسيون “إن كل نشاط إنساني لا بد أن يكون نوعا من السياسة”، وهو قول يتسق مع قول المتشددين دينيا إن الدين حاضر في كل ما يمارسه الإنسان من نشاطات. وفي القول الأخير ما أربك موقف الكثيرين من جمهور كرة القدم الذين انقسموا بين استنكار دعوة قطر لعدد من الدعاة لحضور المونديال والتسلل بين جمهوره وبين الترحيب بها كونها جزءا من الحملة الإيمانية. لقد تم نشر العديد من أفلام الفيديو التي تشيد بنجاح تلك الحملة وتبين فيما بعد أنها كانت أفلاما زائفة. على الأقل لم تكن لها صلة بالمونديال وقد لا تكون قطر مسؤولة عما جرى.
أما على الجانب السياسي فإن قطر تعرضت منذ أن وقع الاختيار عليها لتكون عاصمة لمونديال 2022، وهي لا تملك ملعبا واحدا مؤهلا لاستقبال مباراة عالمية، لحملات مضادة مريبة لعبت السياسة دورا كبيرا في الترويج لها. وما ينبغي الاعتراف به هنا هو أن قطر نجحت في الإفلات من كل المصائد التي نُصبت لها. لقد أنفقت أموالا بطريقة لم تفعلها قبلها كل الدول التي استضافت مسابقات كأس العالم السابقة. ليست المقارنة صائبة. فـ”قطر” ليست البرازيل ولا روسيا. لذلك يمكن اعتبار ما فعلته معجزة بمواصفات ما بعد حداثوية. وفي ظل تلك المعجزة قاتلت قطر كي تبعد عنها الشبهات التي تتعلق بحقوق الإنسان قبل أن يعلو صوت المثليين المطالبين بحقهم في الظهور العلني في الدوحة.
وإذا ما كانت قطر قد هيأت جمهورا لمونديالها وحسب الادعاءات الصحفية الغربية فقد كان حضور رونالدو يكفي. النجم البرتغالي كان يجلس بين الجمهور. فعل ذلك ليس من أجل أن يرى مباريات كروية حسب، بل وأيضا من أجل أن يشهد حدثا غير مسبوق. لقد بنت قطر صروحا رياضية ليس لها مثيل في العالم. ولأنها تعرف أن تلك الصروح لن تستعمل في المستقبل فقد طلبت من الشركات التي بنتها أن تفكر في مستقبلها. لم تكن السياسة حينها حاضرة ولا الدين. هناك بلد أنفق أكثر من مئتي مليار دولار لكي يكون حاضرا على الخارطة العالمية بالرغم من صغر حجمه وقلة عدد سكانه.
في المستقبل ستحتاج قطر إلى الترويج لمنشور بعنوان “دليلي إلى قطر”. سيُقال في ذلك الدليل إن الأرجنتيني ميسي فشل في هدفه الأول فيما نجح في ضربة الجزاء وخرج فريقه مهزوما أمام الفريق السعودي. وسيُقال في الوقت نفسه إن الدولة الخليجية التي رعت لقاء دوليا غير مسبوق من جهة أبهته وتنظيمه أنففت أموالها هذه المرة لصالح شراكة عالمية عنوانها السلام والتآخي والمحبة. ولأن السياسة لا تفعل ذلك فقد يكون الحدث الرياضي المدهش بداية لتحول ستعم تداعياته المنطقة كلها. وهي منطقة أغرقتها الحروب في بحار من اليأس والعتمة والكراهية والشعور بعدم الثقة والخطر المستمر.
لقد كشفت الكرة أن هناك عالما عربيا لا يزال موحدا بالرغم من كل مظاهر الانشقاق والخلاف وحتى العداء التي أوصدت الأبواب أمام زمن يسوده تفاهم بين الأطراف السياسية العربية. فحين جلب السعوديون والمغاربة دموع الفرح إلى ملايين العيون العربية كانت هناك حاجة إلى تأمل فشل السياسة في إقصاء الحاجة العربية إلى الأمل المشترك. ذلك إنجاز عظيم يُحسب للمونديال الذي لم يقفز على السياسة وحسب، بل وأيضا روضها. ولا يتعلق الأمر بهدنة مؤقتة، بل هو درس ربما استفادت منه الدول وتعلم السياسيون منه شيئا.
غلّب القطريون الروح الرياضية على مشاعرهم الحساسة وهم يرون فريقهم يغادر التصفيات. كان مشهدهم وهم يرفعون العلمين السعودي والمغربي فرحا بانتصار الفريقين العربيين مبهجا. لم يفعلوا ذلك استعراضا أو من أجل المداراة على هزيمة فريقهم. كان انتصارهم في إقامة المونديال بنجاح أكبر من أي خسارة كانت متوقعة.
لم تقم قطر المونديال لكي ترى فريقها حاملا كأس العالم، بل لتثبت أن عالم الكبار ممكن اختراقه.