هيثم الزبيدي يكتب:
خيار الخليج مع الصين.. خيارا وليس تأسيسا لقطيعة مع الولايات المتحدة
لا شك أن الرئيس الصيني شي جينبينغ يتساءل: ماذا قدمت الصين للخليج والعالم العربي كي يحظى بكل هذا الاستقبال والاهتمام في القمتين الخليجية والعربية اللتين عقدتا في الرياض الأسبوع الماضي؟ الصين بلد كبير وثاني اقتصاد في العالم. هذان عاملان مهمّان في التعامل مع بكين، لأنهما يشيران إلى آفاق المستقبل القريب. لكن أيّ مقارنة بين التأثير الغربي على الوضع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتأثير الصيني، ستقود إلى اعتقاد أن الدور الصيني لا يزال هامشيا ومترددا. بكين لم تحسم بعدُ خياراتها في المنطقة، وقد لن تحسمها أبدا. المنطقة العربية سوق للبضائع الصينية، ولا يزال البعدان السياسي والثقافي غير حاضرين بشكل ملموس في عالمنا.
المبادرة جاءت من الخليج، وهي أبكر كثيرا مما توحي به التطورات الأخيرة. في دولة الإمارات مثلا، هناك جيل شبابيّ، من الشيوخ والشيخات والمواطنين، يدرس اللغة الصينية منذ أكثر من عقد من الزمان. مع دراسة اللغة يأتي فهم الثقافة. والصين بحكم موقعها الحالي والمستقبلي في خريطة العالم الاقتصادية، قوة لا يمكن التعامل معها باستخفاف.
بمرور الوقت زاد الاهتمام الخليجي بالصين. بعد وصول القيادة السعودية الشابة إلى هرم السلطة، صارت الصين ضِمْن حسابات عملية التغيير. وقِّعْ عقدا مع دولة غربية وستكتب صحافتها عنه ولا تنسَ أن تذيله بمواقف سياسية وانتقادات. وقّع عقدا شبيها مع الصين، ولن ترى إلا الترحيب في الإعلام الصيني. سلة العلاقات مع الغرب معقدة ومتشابكة. النظير الصيني أساسه المصالح، مع إشارة إلى أن الصين لا تحب أن يتدخل أحد في شؤونها الداخلية ولا أن تتدخل بكين في شأن أحد.
الحفاوة التي حظي بها الرئيس الصيني شي جينبينغ فيها من الغضب على الولايات المتحدة أكثر من الاحتفال بانطلاقة كبرى لعلاقة الصين مع المنطقة. ربما بعض التريث إزاء هذا الأمر مفيد الآن
لكن الصين لا تستطيع تقديم كل شيء. الصين نفسها تشتري التقنيات الغربية، أو تنسخها. هي قوة صناعية عظيمة وورشة الإنتاج العالمي التي جعلت كل شيء رخيصا. “صنع في الصين” لازمة مألوفة، لكن الغرب لا يزال يحتكر الكثير من الصناعات والتقنيات المتقدمة التي من الصعب استبدالها بمنتجات صينية. أضف إلى ذلك تراث العلاقة الأمنية لمنطقة الخليج مع الغرب. لا تتوفر قطع غيار صينية لطائرات التورنادو البريطانية ولا توجد طائرة صينية بمواصفات المقاتلة الأميركية أف – 35. لقاحا فايزر وأسترازينيكا المضادان لكوفيد ابتكاران طبيان غربيان.
التراث الأمني في العلاقة بين الخليج والغرب هو توصيف لعلاقة تاريخية أوسع وأهم. في البدء كان التواجد البريطاني الواسع والمكثف في الجزيرة العربية -أو على شواطئها بمعنى أدقّ- يمر من قناة السويس إلى باب المندب وعدن ثم يعرّج على بحر العرب والخليج العربي وصولا إلى البصرة. وباستثناء عدن، لم يكن التواجد البريطاني استعمارا، بل توافقا مع القوى القبلية التي كانت تحكم المنطقة وتحولت بمرور الوقت إلى حكومات. لم تكن لدى تلك الحكومات خيارات كثيرة بخصوص العلاقة مع بريطانيا، سواء أثناء تواجدها أو لدى انسحابها. عندما قررت بريطانيا الانسحاب من شرق السويس، وجد الخليج نفسه منكشفا أمام التهديد الأمني الإيراني. كانت السبعينات مرحلة تغير حاسمة في تأسيس الدول الوطنية في منطقة الخليج. بقي الأمر متأرجحا لبعض الوقت بسبب طموحات الشاه، لكن ما إن قامت الثورة الإيرانية ووصل الخميني إلى الحكم حتى حسمت الولايات المتحدة أمرها في طبيعة ارتباطها بالخليج، ولم يعد الأمر محصورا بالعلاقة السعودية – الأميركية التي اتخذت شكلها الحالي من اتفاق اللقاء على ظهر الطراد كوينسي بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945. مرة أخرى لم يكن الخليج مخيرا في تحديد العلاقة مع الولايات المتحدة، بل الظروف هي التي شكلت هذه العلاقة وطبيعة الحماية التي توفرها واشنطن، خصوصا بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، وما سبقها من مشروع أيديولوجي إيراني لتصدير الثورة إلى المنطقة.
بغزو العراق للكويت ثم تحريرها، وجدت دول الخليج نفسها مرة أخرى من دون خيارات لانتقاء ما تريده وما لا تريده في العلاقة مع الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ومع الغرب بشكل عام. واشنطن ليست حامي الخليج فقط، بل هي القوة السياسية والعسكرية المهيمنة في عالم ما بعد الحرب الباردة. وسواء أرضيت دول الخليج أم لم ترضَ على مفردات كثيرة في هذه العلاقة، فإنها كانت عمليّا مجبرة على مسايرة الغرب عموما والولايات المتحدة على وجه الخصوص. اشترى الخليج أمنه بصفقات أسلحة وتوفير قواعد عسكرية ودفع بالاستثمارات إلى أسواق الغرب والتفاهم المستمر بخصوص حجم الإنتاج النفطي وأسعار الطاقة.
لكن السنوات العشر الأخيرة غيرت وضع العالم.ثمة الكثير من القوى العالمية والإقليمية الصاعدة، والصين في مقدمتها. هذا زاد خيارات دول الخليج في التقليل من الاعتماد شبه المطلق على الغرب. هناك مفاعلات نووية الآن تنتج الطاقة في الخليج من صنع كوريا الجنوبية. التكنولوجيا الصينية للمسيّرات تسللت إلى مصانع السلاح في المنطقة. الشركات الصينية والهندية والكورية تنافس على الاستكشاف النفطي والصناعة النفطية. قد لا يكون حجم السوق الخليجية كبيرا بمقاييس الأسواق العالمية، لكن المنتجات القادمة من شرق آسيا تجد لها محطة مناولة في الخليج.
هذه السنوات العشر غيرت المعطيات السياسية؛ الولايات المتحدة بقيت تحرس المنطقة، لكن لم تعد تهتم كثيرا بأمن واستقرار أنظمتها. مارست الإدارة الأميركية عبثا إستراتيجيا بتبنيها مشروع “الربيع العربي” الذي سرعان ما تصدرته القوى الدينية. ثم توجت إدارة الرئيس باراك أوباما موقفها المتذبذب من المنطقة بالتوقيع على الاتفاق النووي مع إيران. لخصت واشنطن الوضع في المنطقة بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، وتركت انفلات الميليشيات الولائية الإيرانية في كل مكان تقريبا في الشرق الأوسط. ثم عمدت واشنطن إلى الاستثمار في جريمة مقتل صحافي سعودي لخلق مناخ معاد تماما للرياض. ولولا أسعار النفط وحرب أوكرانيا، لانساقت إدارة جو بايدن بعيدا في العداوة دون اعتبار لما يمثله هذا من انقلاب خطير على توازنات القوى في المنطقة.
السنوات العشر الأخيرة غيّرت وضع العالم؛ فثمة الكثير من القوى العالمية والإقليمية الصاعدة والصين في مقدمتها،وقد زاد هذا خيارات دول الخليج في التقليل من الاعتماد شبه المطلق على الغرب
الآن نشهد مرحلة رد الاعتبار للمنطقة. فشل “الربيع العربي” وقوى الإسلام السياسي، وفشل مسعى التشهير بالسعودية حين وجد بايدن نفسه مجبرا على الذهاب إلى جدة يطلب مرونة الإنتاج النفطي في مواجهة تحد روسي خطير في قلب أوروبا. ولم تكتف السعودية بالإصرار على عدم التجاوب مع الضغوط الأميركية بخصوص إنتاج أوبك+، بل أمعنت في “رش الملح على الجرح” بتقديم الصين كبديل إستراتيجي للولايات المتحدة، وتوج هذا التقديم بالقمم السعودية والخليجية والعربية بحضور الرئيس شي. يحدث هذا في الوقت الذي أعلنت فيه أميركا أن الصين هي التحدي الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة، وما عادت تتردد في الحديث عن سعي بكين إلى نحت مكانة غير متوفرة لها حاليا في المنطقة.
ما الذي يختلف الآن؟ في حالة التواجد البريطاني في المنطقة، وما تبعه من وراثة الدور المهيمن من قبل الولايات المتحدة، كانت دول الخليج بلا خيارات. أمر واقع غربي يستبدل أمرا واقعا غربيا بمسمى مختلف. لكن هذه المرة، دول الخليج ومعها الكثير من الدول العربية، تختار. إنها تختار الصين كحليف إستراتيجي، وربما اليوان بديلا عن الدولار. هذا خيار أكبر وأبعد تأثيرا من مجرد تعزيز العلاقات الاقتصادية مع قوة عالمية صاعدة. الولايات المتحدة ما عادت تلوك كلامها قبل أن تصرح بموقفها من الصين. وتترتب على هذا مواقف مبطّنة كثيرة ضد الذين يقدمون الصين كخيار بديل. موقف أميركا من الصين يختلف عن موقفها من روسيا. التنسيق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من خلال أوبك+ يبقى محصورا في الجانب المصلحي الآني. لكن تغيير الخيارات، أو حتى مجرد التلويح بالتغيير، لن تبتلعه الولايات المتحدة بسهولة.
أرسلت دول الخليج رسالة شديدة اللهجة بإصرارها على فصل السوق النفطية عن السياسة. يبدو أن الولايات المتحدة فهمت الرسالة وبدأت تتصرف على أساسها. الرسالة الخليجية الممهورة بالعلاقة مع الصين قضية مختلفة، لأنها خطوة واسعة على طريق الابتعاد عن مسيرة العلاقة مع الولايات المتحدة. لعل إدراك مدى خطورة هذه الرسالة يتجسد في غياب بعض الزعامات الخليجية والعربية عن القمتين الأخيرتين العربية والخليجية، من منطلق أن لا مصلحة للمنطقة في الدخول في صراع مع الحليف الأميركي.
الحفاوة التي حظي بها الرئيس شي فيها من الغضب على الولايات المتحدة أكثر من الاحتفال بانطلاقة كبرى لعلاقة الصين مع المنطقة. ربما بعض التريث إزاء هذا الأمر مفيد الآن.