محمد أبوالفضل يكتب:

الصورة الذهنية لمصر الجديدة

هناك حيّ في مصر شهير يسمى مصر الجديدة، وآخر عريق يطلق عليه مصر القديمة، يعرفهما كل من تطأ قدماه القاهرة ويتجول في شوارعها، وقد يتداخل الأمر على من يمعن التفكير للتفرقة بينهما، لكن الاسم وحده يكشف عن الطبيعة التي تميز كليهما من حيث الزمان والمكان والتكوين، وهما غير مقصودين في هذا المقال.

صك الإعلام المصري الرسمي مصطلح “الجمهورية الجديدة” كدلالة على مصر مختلفة ونظام حاكم يحمل رؤية وطموحات وتطلعات لا علاقة له بما سبقه، وليس حيا أو منطقة معينة، وإن كانت العاصمة الإدارية التي يتم تشييدها تعد هي الرمز الواضح للجمهورية الجديدة، وما يستتبعها من صورة ذهنية براقة تُستدعى على الفور، تأخذ من الحداثة أجملها، وتستعين بالكثير من معالم التقدم والتكنولوجيا، وتضفي على مكوناتها العديد من النماذج الحضارية الجذابة.

دعك من الصورة التي حاول الإعلام المصري اصطناعها أو تكبيرها ولم يفلح في إقناع المواطنين بها حتى الآن، ودعك من الدعاية المصاحبة للجمهورية الجديدة التي تحولت إلى شعار يوضع أعلى غالبية القنوات الفضائية المصرية، وركز في الصورة الذهنية السلبية المقابلة التي أسهم الإعلام نفسه في تضخيمها للدرجة التي طغت تقريبا على الصورة الإيجابية وتسبب بنفسه في هدم ما راكمه حولها.

يكاد المتابع لما يجري في مصر تلتصق في ذهنه العديد من الصور القاتمة، والتي لا تتسق مع المرجو من الجمهورية الجديدة أو يعبر عن الفحوى المطلوب أن تصبح عليها، فقد احتلت الدراسة التي أعلن عنها أحد المراكز المصرية بشأن الأهمية الصحية لأرجل الدجاج (الفراخ) عناوين الكثير من وسائل الإعلام بشكل أوحى وكأن الحكومة تشجع الناس على تناولها في ظل الغلاء الذي ضرب جميع أنواع اللحوم.

جاءت المشكلة من وجود شريحة من الفقراء تقبل على شراء الأرجل فعلا منذ فترة، وكانت هذه المسألة علامة على الفقر المدقع، لكن تركيز وسائل إعلام رسمية على الدراسة ترك انطباعا بأن الحكومة تحرض المواطنين على التوسع في هذه “الفضيلة”.

أضف إلى ذلك أن تسليط الضوء على حوادث قتل واغتصاب وخطف وسحل وطلاق، جعل من يتابعون الشأن المحلي يعتقدون أنها باتت تمثل ظواهر منتشرة في المجتمع، ففي ظل التضييق العام والشخصي الذي يكبل غالبية وسائل الإعلام لم يجد القائمون عليها سوى الاهتمام بكل ما هو غريب ومريب لجذب انتباه الجمهور وحصد متابعات تشير إلى أن هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك تحصد رواجا.

انشغل هؤلاء بإلهاء الناس بدلا من تنويرهم، وقدموا لهم بضاعة إعلامية فاسدة ورائجة، لكنها لا تغني ولا تسمن من جوع، على أمل البقاء في صدارة المشهد، بصرف النظر عن المردود الثقافي والاجتماعي والإعلامي الذي تجلبه هذه الصدارة.

لم ينتبه من اهتموا أو ركزوا أو شجعوا أو لعبوا على وتر هذه النوعية من الظواهر أنها تخلق صورة ذهنية مشوهة لمصر الجديدة، والتي يريدها الرئيس عبدالفتاح السيسي اسما على مسمى، ويشكو دوما من إعلامه بأنه لم ينجح في تقديم الصورة التي يتمناها لدولة يبذل جهدا كبيرا في تنميتها، ويجد أن ما يحدث يسير عكس الاتجاه الذي يحاول نظامه تسويقه، ما يجهض الرسائل الإيجابية التي يسعى نحو ترسيخها.

تكفي صورة سلبية واحدة لتجرف معها جهد سنوات من محاولات بث إشارات تؤكد أن مصر الجديدة أصبحت حقيقة. ويكفي حادث غامض منفرد في أي من المناطق النائية ويتم التركيز عليه ليجهض تحركات كثيرة قامت بها جهات متباينة كي ينزع عن الدولة الجديدة الصفة الحضارية التي يسعى لها السيسي.

تشير الصورة غير المواتية إلى أن هناك خللا في المرسل والمستقبل والمضمون الفاصل بينهما، فالأول يحاول التجميل على طول الخط، والثاني يحاول التشويه قدر ما يستطيع، والمسافة بين الجانبين التي يشغلها المحتوى كافية لتكشف طبيعة المرض بين القمة والقاع، فلا الصورة الوردية حقيقية دائما، ولا الصورة القاتمة مستمرة.

تأتي الفجوة من المبالغة في تقدير الأولى ونقل الأمنيات إلى خانة الواقع، والتشاؤم في التعامل مع الثانية التي يرفض أصحابها الاقتناع بأن هناك شيئا يتم إنجازه فعلا على الأرض، ما يهيئ الأجواء أمام الاستقطاب الحاصل في المجتمع بين رفض الصورة الأولى وسرعة القبول والانتشار المصاحب للثانية.

يتجنب الطرفان في معظم الأحيان تقديم تصورات عملية لمصر الجديدة، فلا هي دولة الرفاهية التي يتمناها الفريق الأول ويروج لها على أنها باتت واقعا ملموسا ويحتذى بها، ولا هي دولة الفقر والجوع والمرض وشعبها يتغذى على أرجل الدجاج.

مصر خليط بين نماذج عدة ربما يصعب أن تجدها في دولة أخرى يبدو التفاوت الطبقي فيها محددا، فهي دولة تتجمع فيها كل المتناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والناظر يجب أن تكون الصورة مكتملة أمامه ليتمكن من تكوين رؤية شاملة لا تغفل الحياة التي يعيشها المرفهون والمهمشون، فالاجتزاء في حالتي الغنى والفقر، والصحة والمرض، والتقدم والتخلف، لا يقيم دليلا على صحة أحدهما.

أسهمت سخرية المصريين المعهودة من الصورة السلبية في منحها رواجا كبيرا على حساب الصورة الإيجابية المنشودة، ربما لأن حجم المعاناة مرتفع، وربما لأن الناس بطبعهم ينجذبون نحو الأخبار والحوادث والظواهر المؤلمة قبل المفرحة.

وربما لأن الأولى أكثر انتشارا واتساعا ومهما أنجزت الدولة المصرية من مشروعات تنموية عملاقة سوف تظل قليلة ولا تفي بتطلعات غالبية السكان، والذين تجاوز عددهم المئة مليون نسمة، نصفهم يعيشون تحت مستوى خط الفقر.

لا تكفي السخرية والتشاؤم والإحباط وكل المفردات التي يحويها القاموس السلبي لتفسر وحدها أسرار الصورة الغامضة المأخوذة عن مصر الجديدة في الوقت الراهن، لأن المسألة لها علاقة بالخلط والتداخل والتشابك بين الحقيقة والخيال وعدم الرغبة في تقديم الصورة كما هي في الواقع، والسعي نحو تجميله بشتى الوسائل، بينما الحياة قاسية على شريحة كبيرة من المصريين، أقساها يكمن في الشعور الجارف بمخاطر أزمة اقتصادية لا تتناسب معها الصورة الدعائية الناصعة لمصر الجديدة.

كل المشروعات العملاقة والمدن المتنامية والمترامية وحياة الرفاهية في المنتجعات المصرية لن تتمكن من خلق صورة ذهنية إيجابية ما لم يشعر المواطنون بالعدالة والمساواة وتطبيق القانون ومقاومة الفساد والكرامة الإنسانية، فالفقر لم يكن جوهر الأزمة في أي وقت، لكن الغبن كفيل بأن يدمر الصورة المطلوبة للجمهورية الجديدة.