د. حسن نافعة يكتب:
دور عربي يبحث عن بطل
يمر العالم العربي حَالِيًّا بأوضاع تشبه، إلى حد ما، تلك التي مر بها في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي. ففي تلك الفترة، كانت معظم البلدان العربية محتلة مباشرة من جانب قوى الاستعمار الأوروبي، خاصة البريطاني والفرنسي، وتبدو في حالة يرثى لها من الضعف والخنوع لأسباب كثيرة، أهمها:
هزيمة الدول العربية في الحرب التي خاضتها في مواجهة إسرائيل عام 1948، وانتهت بتثبيت دعائم الدولة اليهودية الوليدة، وتمكينها من السيطرة على مساحة من الأراضي الفلسطينية تزيد بمقدار 50% عن المساحة المحددة لها بموجب قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947.
إصابة حركات التحرر الوطني في معظم أنحاء العالم العربي بأمراض متعددة، بسبب ما شهدته من انقسامات راحت تزداد حدة بمرور الوقت.
عدم استقرار الأوضاع السياسية والاجتماعية في أغلب الدول العربية، بسبب عجز النخب الحاكمة التي يهيمن عليها المحتل الأجنبي عن إيجاد حلول فعالة للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في ذلك الوقت
4- انقسام النظام العالمي إلى معسكرين متصارعين، وتعرض العالم العربي في ظل الحرب الباردة المحتدمة بينهما لضغوط متزايدة، تستهدف جرها للانخراط في الأحلاف العسكرية التي شكلها المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة واستهدفت حصار واحتواء المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. ولأن القدرات الكامنة في العالم العربي كانت تؤهله ليتبوأ مكانة أفضل من واقعه المعاش، فقد بدت الشعوب العربية حينئذ وكأنها تبحث عن بطل للقيام بدور كان يأمله ويتطلع إليه، وهذا هو بالضبط ما استوعبه جمال عبد الناصر وعبر عنه صراحة في كتاب "فلسفة الثورة"، ثم راح يمارس هذا الدور بالفعل، خاصة عقب انفراده بالسلطة في مصر اعتبارًا من عام 1954، وهو الدور الذي جسدته قرارات كبرى كان من أهمها: 1- إبرام اتفاقية للجلاء مع بريطانيا عام 1954،2- المشاركة في مؤتمر باندونج للتضامن الأفروآسيوي عام 1955، وهو المؤتمر الذي أسس لظهور وانطلاق حركة عدم الانحياز على الصعيد العالمي فيما بعد، 3- تقديم الدعم لحركات التحرر الوطني في مختلف البلدان العربية. 4- دفع فكرة الوحدة العربية خطوات للأمام، خاصة عقب قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958. وبصرف النظر عن تقييمنا للتجربة الناصرية، والتي شابتها بالقطع أخطاء تصل إلى حد الخطايا، إلا أنه يصعب التشكيك في حقيقة أنها نقلت العالم العربي من حالة الخنوع والتبعية التي كان عليها إلى حالة أخرى مختلفة تمامًا تتسم بمحاولة البحث الجاد عن صيغة تمكنه من الخروج من إسار التبعية والتخلف.
اليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على التجربة الناصرية، يبدو العالم العربي في حالة أكثر بؤسًا مما كان عليه في بداية خمسينيات القرن الماضي، رغم حصول كافة الدول العربية على استقلالها، من حيث الشكل على الأقل، وذلك لأسباب أخرى مختلفة أهمها: 1- فشل العالم العربي ليس فقط في تمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على استقلاله السياسي أسوة ببقية الدول العربية، وإنما أيضًا رضوخه واستسلامه للإملاءات الإسرائيلية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية نِهَائِيًّا والزج بالعالم العربي للدخول في مواجهة عسكرية مع إيران، لا ناقة له فيها ولا جمل 2- عجز الشعوب العربية عن إقامة أنظمة حكم ديمقراطية، خاصة بعد فشل "ثورات الربيع العربي"، واشتعال الحروب الأهلية داخل العديد من الدول العربية، ما يعكس حالة انقسام حاد تعيشها النخب السياسية العربية التي باتت عاجزة عن الاتفاق على صيغة للتعايش تمكنها من بناء دول وطنية متماسكة. 3- دخول النظام الدولي في مرحلة استقطابية جديدة، بسبب الحرب الساخنة المشتعلة حَالِيًّا في الساحة الأوروبية بين روسيا، من ناحية، وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، وتعرض العالم العربي لضغوط قوية من جانب المعسكرين المتصارعين تستهدف جره للتحالف مع أي منهما. ولأن القدرات الكامنة في العالم العربي تؤهله لتبوأ مكانة أفضل من واقعه المعاش حَالِيًّا، فمن الطبيعي أن تتطلع الشعوب العربية من جديد إلى بطل ينتشلها من الحالة المزرية التي تمر بها في المرحلة الراهنة. غير أن توافر الظروف الموضوعية التي تدفع بالعالم العربي للبحث عن بطل يستطيع القيام بهذا الدور، وهي في تقديري متوافرة حَالِيًّا على الصعيدين الداخلي والخارجي، لا يعني أن الظروف الذاتية اللازمة لوجود بطل قادر على القيام بمثل هذا الدور باتت متوافرة. فليس لدى مصر زعيم في حجم جمال عبد الناصر يمكن أن تقدمه لإعادة إنتاج دور مماثل للدور الذي لعبته في الخمسينيات والستينيات، وليس من المحتمل أن تتمكن أي دولة عربية أخرى من صناعة بطل بنفس المواصفات في المستقبل المنظور، بل وليس هذا هو المطلوب في الوقت الراهن. فبدلًا من أن نجهد تفكيرنا في البحث عن بطل "منقذ"، فربما يكون من الأجدى أن نبحث عن قيادة جماعية عربية تكون بمثابة "قاطرة" لعمل عربي مشترك قادر على انتشال العالم العربي مما هو فيه.
ليس الغرض من هذا المقال تحديد الدول العربية المؤهلة أكثر من غيرها لصنع "القاطرة" التي نعتقد أن العالم العربي بات في أمس الحاجة إليها، وإنما طرح ومناقشة الفكرة ذاتها، وتحديد الأهداف التي ينبغي على "المجموعة القاطرة" التي نقترح تشكيلها أن تسعى لتحقيقها. ولتقريب هذه الفكرة من الأذهان، دعونا نتفق أولًا على أن الصيغة الحالية للعمل العربي المشترك، والتي تجسدها جامعة الدول العربية، قد أصبحت في حالة موت سريري، ومن ثم لم تعد قادرة على تطوير نفسها ونقل العالم العربي من الحالة البائسة التي هو عليها حَالِيًّا إلى حالة أكثر فاعلية وقدرة على الإنجاز. هذا لا يعني أنه ينبغي علينا هدم الجامعة العربية والبحث عن بديل يبنى على أنقاضها، فالواقع أن هناك ضرورة للحفاظ على تلك المؤسسة الجامعة، باعتبارها تمثل صيغة الحد الأدنى من التضامن العربي المطلوب، مع التفكير في الوقت نفسه في إنشاء آلية موازية تتشكل من عدد محدود من الدول العربية التي تتوافر لديها مصلحة في بناء نظام إقليمي عربي قوي، وتتوافر لدى قياداتها السياسية في الوقت نفسه إرادة حقيقية للمشاركة في بناء قاطرة قادرة على قيادة هذا النظام. إذ
يتعين على القيادات السياسية لهذه "المجموعة-القاطرة" أن تدرك حقائق ثلاث على جانب كبير من الأهمية:
الحقيقة الأولى: إن طريق التسوية السياسية مع إسرائيل، وفقًا للنهج الذي بدأه السادات بزيارة القدس عام 1977 وانتهى بإبرام اتفاقية أوسلو عام 1993، قد وصل إلى طريق مسدود، وأن مواصلة السير عليه لن تفضي إلا إلى تصفية القضية الفلسطينية نِهَائِيًّا، وتمكين إسرائيل من جر العالم العربي إلى مواجهة عسكرية مع إيران، لتخلو لها الأجواء بعد ذلك وتصبح الساحة ممهدة لفرض هيمنتها الكاملة على العالم العربي. لذا، فعلى مجموعة الدول العربية المؤهلة لقيادة النظام العربي أن تسلك طريقًا آخر يؤدي إلى مساعدة الشعب الفلسطيني على إعادة بناء حركته الوطنية الموحدة وتبني استراتيجية نضالية جديدة لإدارة الصراع مع إسرائيل لا تستبعد أَيًّا من وسائل المقاومة المشروعة بما فيها المقاومة المسلحة، والسعي لإقناع جميع الدول العربية بالتمسك بالمبادرة العربية التي ترفض التطبيع مع إسرائيل إلا بعد إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس. بعبارة أخرى، يمكن القول إن تفعيل العمل العربي المشترك يتطلب أولًا وقبل كل شيء التخلي عن نهج التسوية الحالي وتبني نهج المقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني.
الحقيقة الثانية: إنه ليس للعالم العربي أي مصلحة حقيقية في استعداء إيران أو تركيا وأن لديه مصلحة مؤكدة في إقامة أفضل علاقات ودية ممكنة مع كل منهما. وللتوصل إلى صيغة متوازنة تقوم على الأمن المتبادل والمصالح المشتركة، ينبغي على العالم العربي أن يوحد صفوفه وأن يدخل في مفاوضات جماعية مع كل منهما تستهدف التوصل إلى رؤية موحدة تضمن تحقيق الأمن الجماعي لكل الأطراف. بعبارة أخرى، يمكن القول إن العمل على "تصفير" المشكلات مع كل من إيران وتركيا ينبغي أن يكون في مقدمة الأوليات التي ينبغي تبنيها في المرحلة القادمة.
الحقيقة الثالثة: إن حالة التجزئة القائمة حَالِيًّا في العالم العربي لا يجب أن تستمر إلى الأبد، فبين الشعوب العربية روابط ثقافية وتاريخية مشتركة تسمح لها بإقامة أمتن العلاقات الوحدوية، غير أنه يتعين التسليم في الوقت نفسه بوجود عقبات بنيوية كثيرة تحول دون تحقيق الوحدة السياسية طفرة واحدة، ومن ثم فعلى الدول المؤهلة لتشكيل قاطرة لقيادة النظام العربي في المرحلة القادمة أن تقيم فيما بينها تجربة تكاملية مدروسة تؤدي إلى وحدة تدريجية قابلة للتنفيذ على مراحل. بعبارة أخرى، يمكن القول إن طريق التكامل الفعلي بين الدول العربية، وفقًا لخطة علمية مدروسة، يجب أن يحل في المرحلة القادمة محل الشعارات القومية الرنانة لتحقيق الوحدة العربية.
في تقديري أن الظروف الموضوعية اللازمة لإفراز "المجموعة- القاطرة" المؤهلة لقيادة النظام العربي باتت متوافرة أو في طريقها للاكتمال. فتسوية الصراع العربي الإسرائيلي بالشروط الإسرائيلية باتت مرفوضة شَعْبِيًّا، خاصة في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، والعلاقات العربية الإيرانية والعربية التركية تزداد تقاربًا، والنظام الدولي يتجه من جديد نحو حالة استقطابية تستدعي من الدول العربية، خاصة تلك التي لديها موارد كبيرة من الطاقة، أن تتوحد وتتكامل. لكن متى تنضج الظروف الذاتية التي تدفع بعدد من قادة الدول العربية المؤثرة لإدراك هذه الحقائق الثلاث والتقدم نحو أن تتبوأ موقع القيادة في النظام العربي الجديد المطلوب إقامته اليوم بإلحاح؟