هيثم الزبيدي يكتب:
كيف يربح الخليج حرب أوكرانيا من دون إطلاق رصاصة
ثمة اتفاق بين المحللين والباحثين في العالم على أن الخليج هو المستفيد الأول من حرب أوكرانيا. لا يد للخليجيين في الأزمة التي أوصلت أوروبا إلى الحرب. هذه أزمة مرتبطة بسلسلة من العُقد النفسية التي طبعت تاريخ شعوب في أوروبا. هل أوكرانيا دولة حديثة ولدت مع انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينات، أم هي دولة- إقليم ورثها السوفيات من الإمبراطورية الروسية في عهد القيصر؟ هل هي دولة تنتمي اليوم إلى الغرب ومن حقها أن تحمي استقلالها باستقدام الناتو على حدودها مع روسيا، أم هي رأس حربة في مشروع غربي لتفكيك روسيا كما يرى فلاديمير بوتين؟ الخليج لا علاقة له بالرد على مثل هذه الأسئلة. قد لا يكون القادة الخليجيون متفرجين على ما يحدث في أوروبا وبقية العالم. ولكنهم يدركون أهمية النوافذ المهمة التي فتحتها لهم الأزمة في مختلف المجالات.
مرّ تقريبا عام على فورة عائدات النفط والغاز التي حققتها المنطقة. التذبذب في الأسعار، خصوصا في أسعار النفط، ينحصر في مجال الأرقام المرتفعة. النفط يحلق عاليا فوق 80 دولارا للبرميل. حينما يصعد إلى 120 دولارا للبرميل، فأهلا وسهلا. وإذا بقي في نطاق 85 – 95 دولارا للبرميل، فلا إشكال، بل ربما أفضل لأنه لن يستفز الغرب الذي يبحث عن حلول سهلة للاستغناء عن توريد النفط والغاز من روسيا. عقود الغاز، الحالية والقادمة بين دول الخليج وأوروبا، تبدو عقودا “أبدية” بمقاييس التوريدات إذ تمتد لعشرات السنين.
باستثناء قطر التي استمرت إلى الأمس القريب في الإنفاق على مونديال 2022 بمليارات الدولارات، استعدت الدول المنتجة الأخرى لعالم متقلب. من الصعب وصف الخطط الحكومية في السعودية والإمارات بأنها خطط تقشف. كانت أزمة 2008 المالية العالمية إنذارا مبكرا لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، سواء تعلق الأمر بأسعار النفط أو بعائدات الاستثمار. أعادت الإمارات توجيه إنفاقها مبكرا، ولحقت بها السعودية بعد سنوات من ضخ الأرصدة المتراكمة في ثغرات الإنفاق والميزانية. ثم أعاد البلدان النظر في خططهما الاقتصادية آخذين بالاعتبار ما تحقق من إنجازات على مستوى البنى التحتية والاستثمارات وما ينبغي التوسع فيه من صناعات نفطية وتطوير حقول النفط والغاز. الإنفاق الكبير مستمر، ولكن بتوجيه مختلف يهدف إلى تحقيق المزيد من العائدات، وليس إلى الاستمرار بمشهد الرخاء في الإنفاق لغاية الرخاء من دون تحسب للمستقبل. على الكويت أن تحل مشاكلها السياسية قبل أن تجد طريقها في سباق النفط والغاز الحالي.
البنى التحتية التي تم تشييدها في الخليج خلال العقدين الماضيين استثنائية. هي بحد ذاتها استثمار ينبغي النظر إليه من هذه الزاوية. البنى التحتية الخدمية هي فرص استثمارية عبر تحويلها إلى مصدر يعود على الحكومات بفوائد. كانت ثمة حاجة إلى قرارات سياسية خارج المألوف في الخليج. هل تستمر الدول في توفير الكهرباء والماء والخدمات بسعر شبه مجاني، بما يلحق هذا من إسراف ومضيعة للموارد؟ أم أن ثمة فرصة لحلول وسطى للتوفير والترشيد من خلال النظر إلى هذه الاستثمارات على أنها مصدر عائدات؟ خذ أي خدمة من مواطن يراها حقا مكتسبا تعوّد عليه مدة طويلة، وسيحس بالضيق. لكن ما هي الخيارات أمام عالم متقلب ينبغي الاستعداد له؟
توجه السعودية الكثير من الوفرة المالية الحالية إلى مشاريع محلية كبرى؛ هي مشاريع ابتكارية، مثل ما نراه في مدينة نيوم. لا يزال من المبكر معرفة ما ستقدمه مثل هذه المشاريع للناتج القومي السعودي على مدى العقود القادمة. لكن السعودية تنظر إلى عاصمتها الرياض نظرة مختلفة وتصر على أن تضعها في مزاج حياتي واجتماعي واقتصادي مختلف. حتى من قبل شلال الواردات الإضافية، تريد الرياض أن تنافس دبي على سبيل المثال. وإذا كانت دبي قد استقطبت الكثير من الشركات العالمية بالإغراء وتوفير الفرص، فإن الرياض لا ترى مانعا في استخدام الضغوط لجعل الشركات تنقل مقراتها إلى عاصمة السعودية. هذه منافسة مشروعة، ولا يبدو أنها تصنع تحكّكا مصلحيا. تزامن هذا التنافس مع إقبال مكثف من مختلف أنحاء العالم على دبي. ما يخرج من الإمارات من شركات نحو السعودية سرعان ما يتم تعويضه من شركات قادمة، روسية أو صينية أو من تلك الدول التي لا تعرف الاستقرار.
يتميز المشهد السياسي في الخليج اليوم بالصمت. ثمة تركيز على تحويل العائدات إلى استثمارات. لا يمر يوم من دون الإعلان عن استثمارات سعودية وإماراتية وقطرية في صناعات وخدمات ومصارف إقليمية وعالمية. هذه النافذة الثالثة التي فتحت للخليج من عائدات النفط والغاز. الأولى رافقت مراحل التأسيس في الستينات والسبعينات. ثم جاءت المرحلة الثانية بعد حرب العراق مطلع الألفية الحالية. المرحلتان ساهمتا في تأسيس الدولة الوطنية وتشييد البنى التحتية والإدارية وإطلاق مشاريع التعليم وترسيخ الخدمات. المرحلة الثالثة هي مرحلة التحول إلى تثبيت أركان العائدات للمستقبل، خصوصا من ناحية الاستثمارات العالمية.
الدول الخليجية الثرية تستثمر بلا تحفظ هذه الأيام. المال كثير، ولا إشكال في استثمارات في مناطق مضطربة سياسيا، بل في مناطق كان العداء يطغى على العلاقات بينها وبين بعض الدول. قطر تستثمر في مصر. السعودية والإمارات تستثمران في تركيا، بل وتدعمان المصرف المركزي التركي بودائع. السعودية لا تتردد في الإعلان عن استثمارات بعشرة مليارات دولار في بلد متأرجح سياسيا مثل باكستان. هذه الدول اليوم قوة اقتصادية ومالية هائلة، تستطيع أن تغامر بلا تحفّظات كثيرة.
حرب أوكرانيا أخرجت إلى العلن مشروع التخلص من الضغوط الأميركية. منذ سنوات تمارس الولايات المتحدة سياسة الضغط من أجل ترويض الإنتاج النفطي لأوبك. مع صعود تحالف أوبك+ والإمعان في إهمال التشكي الأميركي من سياسات الإنتاج، تحررت مستويات الإنتاج من الضغوط، وتحررت معها العائدات التي كان قسم منها يخصَّص لشراء التكنولوجيا والسلاح الغربييْن، في مقايضة معروفة لإسكات المتذمر الأميركي. العائدات الآن، مثلها مثل الإنتاج، يمكن أن تذهب إلى أي مكان في العالم. العالم سوق للنفط والغاز الخليجييْن، والخليج سوق ما عادت خاضعة لاحتكار التكنولوجيا والسلاح القادمين من الغرب. قبل أشهر، استعرض الأميركيون ضغوطهم على السعودية والإمارات. اليوم واشنطن صامتة، وكل ما يهمها أن تجد نفطا بسعر معقول تضخه في خزاناتها الإستراتيجية المستنزفة، قبل أن يجد طريقه إلى الصين والهند. واشنطن بدأت تفهم حدود قوتها.
الغرب يستمر في ابتداع الضغوط، مهما كانت حافلة بالتناقضات. يعطي حق استضافة مؤتمر المناخ “كوب 28” لدولة نفطية هي الإمارات، ثم يطلق حملة استفزازية عند تعيين الرئيس التنفيذي لشركة النفط أدنوك رئيسا للمؤتمر. هذه الإرهاصات السياسية الدعائية هي جزء من إدراك الغرب أنه أمام قوى صاعدة تمتلك المال، وتتوفر لها الخيارات.
سواء أكانت روسيا هي التي أشعلت فتيل الحرب أم الغرب، فإنها أسهمت -ربما مثل أي حرب كبرى- في تغيير موازين القوى في العالم. لم يطلق الخليج ولو رصاصة واحدة في هذه الحرب. لكنه بالتأكيد سيكون من كبار المنتصرين فيها.