محمد أبوالفضل يكتب:
صورة مصر في الخليج
حفلت بعض مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية بتعليقات كتاب وصحافيين ونشطاء سياسيين ومهتمين بالعلاقات بين مصر ودول الخليج، أخذت غالبيتها طابع اللوم والعتاب، والشماتة أحيانا، وظهرت فيها نعرات جزء منها موضوعي، والجزء الآخر “شوفيني” ينمّ عن احتقانات قديمة.
المثير في الانتقادات الخليجية والرد عليها من مصريين أنها سلكت طريقا سياسيا شبه رسمي، فقد اعتبرها خليجيون نقدا طبيعيا لما يجري في مصر التي لا أحد يقلل من مكانتها وأهميتها، بينما رآها المصريون غضبا من السياسات الخليجية التي تتخلى عن بلدهم في وقت المحنة، وفي المحصّلة بدا كل طرف ينطق بلسان دولته.
أخذت الانتقادات طابعا جادا عندما دخل على الخط كتاب سعوديون لهم علاقات وطيدة بالأسرة الحاكمة في بلدهم، وهو ما تعامل معه خبراء وكتاب ونشطاء في مصر على أنه يحمل بصمة مقصودة لتوصيل رسالة رسمية لمن يهمهم الأمر في القاهرة.
في غالبية الخلافات التي نشبت بين مصر ودول الخليج في السنوات الماضية لم تأخذ طابعا علنيا إلا نادرا، وجرى احتواؤها سياسيا قبل أن تتسبب في أزمة حقيقية أو تؤدي إلى جرح غائر، باستثناء قطر ومبالغتها في استهداف مصر قبل مصالحة قمة العلا الخليجية، وردّت عليها الثانية بما يتناسب مع درجة الاستهداف، وانحصر التراشق وقتها في الشق الإعلامي إلى أن اختفت الكثير من معالمه الآن
القاهرة أخذت تدرك حجم التحولات في آليات المنح ولا تريد "شيكات على بياض"، ولن يصبح الخليج سعيدا بتدهورها كثيرا أو وضع شروط اقتصادية مبالغ فيها
يعلم المتابعون للشؤون العربية، والخليجية المصرية تحديدا، أن ما يقال في وسائل الإعلام الرسمية، والتي تدور في فلكها داخل الدول السبع، يحمل مضامين سياسية، فلا يملك رعايا هذه الدول رفاهية حرية التعبير، على الأقل في القضايا الحساسة.
كسّرت مواقع التواصل هذا التابو أو المُحرّم، غير أن البعض من الأسماء لا تزال تخضع لهذه المعادلة حتى لو عبّرت عن رأيها على حساباتها الخاصة وحاولت الإيحاء بأنها “فضفضة” شخصية خالية من المعاني السياسية الخفية.
تتجاوز المشكلة تعبير كاتب أو اثنين من السعودية، أو غير ذلك في أي دولة خليجية، والتي بات فيها موقع تويتر هايدبارك أو منتدى سياسيا تتلاقى فيه الآراء وتتعارض، وأصبح ينتشر في مصر وبدأ يتحول تدريجيا إلى وسيلة جذابة للنخبة للتعبير عن تقديراتها في الملفات السياسية، منها ما لا يتفق مع توجهات النظام الحاكم عموما.
لم تختلق التعليقات الأزمة بين بعض دول الخليج ومصر، بل جعلتها تطفو على السطح، لأن المتابعين للعلاقات على الضفتين من السهولة أن يستشعروا ملامحها مما حدث على مدار العامين الماضيين، مثلا في غياب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن قمتين عربيّتين عقدتا في العلمين وأبوظبي.
كذلك وقف برنامج المساعدات والمنح والمعونات الذي تلقت بموجبه القاهرة ما يقرب من مئة مليون دولار خلال السنوات التسع الماضية وتم تحويله إلى استثمارات.
ليس سهلا وضع توصيف محدّد أو تفسير معيّن للأزمة، وهذا لا يلغي وجودها، وتكمن المشكلة في الطريقة التي يتعامل بها كل طرف، مع مراعاة أن هناك فروقا نسبيّة بين كل دولة خليجية وتقديرها لمستوى العلاقات مع مصر حاليا وفي المستقبل.
قد لا يعبأ المصريون بالأزمة التي تصاعدت مع الكويت واتخذت مسارات عدة، حيث اعتادوا وفهموا دوافعها وأهدافها، ولا يقلل ذلك من خطورتها عليهم إذا تركت بلا حلول إيجابية، لكن ما يقلقهم حقيقة هو ما بدأت تسلكه العلاقات بين القاهرة والرياض.
يمكن الاستناد إلى تغريدات سعوديين تطرقت إلى دور الجيش المصري المدني، ونال جانبا مهما فيها وتم توجيه اللوم إليه بذريعة تماديه في السيطرة على الاقتصاد، وتحميله مسؤولية الأزمة التي تعاني منها البلاد في الوقت الراهن.
استقبت تعليقات بعض الإعلاميين في مصر الانتقادات السعودية عندما وجهوا لوما إلى زميلهم عمرو أديب مقدم برنامج الحكاية على قناة “إم بي سي- مصر” السعودية واتهم بأنه ينفذ أجندتها، وبدا أديب جسرا للعبور إلى ما وصف بـ”كفيله المباشر”، في إشارة إلى وزير الترفيه تركي آل الشيخ، ونال حظه في معركة عودة المطربة المصرية آمال ماهر للغناء بعد غياب بقرار من تركي نفسه الذي تزوّجها منذ سنوات.
من تعرضوا إلى تركي يعلمون صلته الوثيقة بالأمير محمد بن سلمان، إذ أرادوا توصيل الرسالة إليه بأن مصر غاضبة أو قلقة أو منزعجة من أمور عديدة، في مقدمتها وقف المساعدات وتحويلها إلى استثمارات، وقيل إنها جاءت مصحوبة باشتراطات معينة لشراء أصول وشركات لم تقرر القاهرة عرضها للبيع أو تضعها ضمن برنامجها للخصخصة بغرض المساهمة في حل الأزمة الاقتصادية.
المطلوب مراعاة أن المنطقة على موعد مع تقلبات تفرض التفاهم قبل أن تزداد الرؤية القُطرية اتساعا وتتفجر أزمات أكثر تعقيدا
زادت الأزمة عقب ما نشره موقع أميركي (إكسيوس) مؤخرا بأن مصر أوقفت تسليم تيران وصنافير للسعودية كنوع من الاحتجاج على تصرفاتها في مسألة وقف المساعدات وشروطها الجديدة في الاستثمار، وهما جزيرتان في البحر الأحمر وتحتلان أهمية كبيرة لدى ولي العهد السعودي.
اللافت أنه لا أحد من المسؤولين في البلدين تحدث عن وجود أزمة، بحكم أنها قابلة للحل والتفاهم في ظل العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، وربما لأن المسافات بعيدة وتحتاج وقتا واتصالات سرية لتقريبها، فهذه من المرات النادرة في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي التي تنشب فيها أزمة تحتاج لمعالجة عميقة، لأنها لا تتشابه مع خلافات سابقة وجاءت في توقيت يعيد فيه كل طرف ترتيب أوراقه الداخلية والإقليمية.
يصعب القول إن صورة مصر في الخليج تغيّرت، أو أن صورة الخليج تغيرت في مصر، لكن الفتور في العلاقات، وبنسب متفاوتة، جاء نتيجة إعادة التقييم لسياسات قامت على المنح والعطاء من قبل الخليج، والمؤازرة السياسية والدعم الأمني والاتفاقيات العسكرية من قبل مصر، وهما جانبان يتعرضان لصياغة مختلفة عند الطرفين بحكم التغير في توجهات الأنظمة الحاكمة والتحولات الجارية في المنطقة.
بقدر ما يبدو الصمت الرسمي مفيدا في الحالة المصرية -السعودية، بقدر ما يمثل ضررا إذا تجاهل الطرفان معالجة ما رشح من أسباب أدت إلى نشوب أزمة، قد تزداد ضخامة بما يجعل عملية تفكيكها صعبة، خاصة أن هناك حديثا متواترا حول منافسة إقليمية تستخدم فيها كل دولة إمكانياتها وقدراتها، وتذكّر بأجواء حرب تشابكت فيها معالم البرودة والسخونة خلال فترة حكم الرئيس المصري جمال عبدالناصر.
من غير المطلوب أن تكون صورة مصر ناصعة تماما في الخليج، فلا توجد دولة بهذا الوصف في العالم، وأعتقد أن القاهرة أخذت تدرك حجم التحولات في آليات المنح ولا تريد “شيكات على بياض”، ولن يصبح الخليج سعيدا بتدهورها كثيرا أو وضع شروط اقتصادية مبالغ فيها. المطلوب مراعاة أن المنطقة على موعد مع تقلبات تفرض التفاهم قبل أن تزداد الرؤية القُطرية اتساعا وتتفجر أزمات أكثر تعقيدا.