عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

الجامعة الجزائرية: معركة اللغات الوهمية، والأكاديمية الأسيرة

كل دول العالم تجد فيها تعايشا  وتكاملا وتلاقحا أكاديميا بين اللغة الرسمية لتلك الدول ولغات أجنبية أخرى، ففي فرنسا تجد تعايشا وتكاملا بين الفرنسية والإنجليزية، وفي دول الخليج تجد اختبارات في اللغة الإنجليزية لمن يريد ولوج الجامعة، وهناك تبني للغات أكاديمية أخرى لم تكن يوما جزءا من الجغرافية اللسانية للخليج كالفرنسية مثلا، ففي الإمارات تم فتح فرع للسوربون في أبو ظبي.
كل الجامعات تملك عدة لغات أكاديمية داخلها، لأنها حاجة وضرورة، فالعلوم اليوم بشساعتها وتوسعها المستمر،  لا يمكن أن تحملها لغة واحدة، فالإبتكارات والأفكار والفلسفات  تصاغ اليوم  في كل لغات الدول الخالقة للمعرفة.
ليست اللغات الحية فقط هي من تتعايش بينها داخل الحرم الجامعي، بل اللغات الميتة أيضا، فبعض التخصصات كالتاريخ والآثار  والأنثروبولوجيا لا يمكن أن تكتمل إلا بلغات نعدها اليوم ميتة كاللاتينية والإغريقية والمصرية القديمة.
لكن ما يحدث في جامعتنا الجزائرية اليوم، أصبح مُحيرا ويدعو للتأمل والدراسة، بل يدعو لدق كل نواقيس الخطر المتاحة، فالسياسة والإيديولوجية أصبحتا تتدخلان في كل شيء، حتى في الأكاديمية البعيدة عن كل تعصب، العدو الأول للمنهج العلمي المحايد في جوهره.
أصبحنا اليوم نرى حملات شعبية على جامعات قدمت أسئلة مسابقة دكتوراه باللغة الفرنسية، ومن جهة أخرى نرى منع المتقدم لمسابقة الدكتوراه من الإجابة بلغة غير اللغة التي طرحت فيها الأسئلة حتى لو كان التخصص يحتمل ذلك، كالتاريخ والعلوم السياسية و الإجتماعية.
أصبحنا نرى اليوم خلطا فظيعا بين ما يسمى سياسيا تعريب التعليم والإدارة و مؤسسات الدولة، وبين تطوير البحث العلمي على مستويات أعلى وأوسع.
يمكن لأي عاقل مطلع اطلاعا كافيا، أن يفهم معاني التعريب في أطوار التعليم والتكوين كُلّها، لكنه لا يستطيع أن يفهم معنى إقصاء اللغات الحية من الوسط الأكاديمي في مستويات البحث العلمي، وهنا أتكلم عن مستويات الماستر والدكتوراه في الجامعة، فكيف لطالب يدعي البحث العلمي في مجال السياسة مثلا وهو لا يحسن نشر علومه وبحوثه في لغة أجنبية سواء الفرنسية أو الأنجليزية، بل لا يمكنه اجتياز امتحان قاعدي بهما، وفي الجانب الآخر نتساءل كيف للجامعة أن تمنع طالب دكتوراه من الإجابة بأي لغة أجنبية يحسنها مادامت تلك اللغة معتمدة أكاديميا كالفرنسية والإنجليزية.
هذا التساءل لا يمكن الإجابة عليه إلا من خلال فهم العوامل التي أدت إلى هذا التقهقر الأكاديمي في الجزائري.
أول عامل هو عدم تحديد معاني التعريب في العقل الجزائري، فالغالب أن الشاب المتحمس للتعريب يظن أن هناك حرب إبادة ضد أي لسان غير اللسان العربي وهذا الفكر في غالبه، ردة فعل إيديولوجية لا علاقة لها باستراتيجية علمية ولا فلسفة سياسية.
العامل الثاني،  هو عدم الفصل بين حاجتنا لتعريب القواعد كالتريية والتعليم اللذان ينتهيان عند شهادة البكالوريا،  وضرورة  توسيع الخريطة اللسانية في التكوين والبحث العلمي في الجامعة، فالربط والخلط  بين عوامل التأسيس للدولة وعوامل التأسيس لأكاديمية جزائرية قوية، جعل الكثير يحكمون على تواجد الفرنسية في بعض التخصصات على أنه أمر خطير يمس بالسيادة وهذا خطأ لا يغفر لمن يتابع هذا الفكر من المحسوبين على الأكاديمية.
في الجزائر كانت اللغة الفرنسية غنيمة حرب يتعلمها الجزائري بشكل ممنهج في مدارسه ويبرع فيها براعة تؤهله لاستعمالها أكاديميا وبشكل منهجي كامل، ثم ظهرت موجة التعريب المطعمة بالإيديولوجية،  موجة أُفرغ منها طابعها العلمي الثقافي الهوياتي فتحولت إلى مجرد حملة عاطفية ضد لغة المستعمر ، لا ضرورة لإحياء الإرث التاريخي وجزء من هوية الجزائر، فكانت المصيبة أن أصبحت الفرنسية تتراجع، دون أن تملأ العربية مساحاتها المهجورة، ليس ضعفا في العربية، بل نقصا في الجهد المبذول لتطويرها وتحديثها بما يتناسب و تطور المعارف الحديثة، فأصبح لدينا طالب لا يمكنه التحدث بطلاقة بأي لغة، ولا يمكنه استعمال أي منهما في مجاله بشكل مكثف و بكفاءة عالية.
ظهر قبل عقد، تيار يدعو إلى إدخال الإنجليزية في التعليم، ولكنه في رأيي لم يكن إدخالا بل كان إقحاما لأنه لا يزال في مرحلة تجريبية لكن تم تعميمها، وتوسعت المطالبات لتنادي بجعل اللغة الإنجليزية لغة للتكوين الجامعي، دون أي مقدمة ولا اقتراح لتجاوز الفقر اللغوي الحاصل أصلا في الجامعة الجزائرية. فطالب اليوم يلج الجامعة لا يملك من اللغات الحية غير عربية محطمة في لسانه وكأنه يجمع شتاتا حين يتكلم بها، ولغة أجنبية تشبه ظلا يهمس به بدل التكلم، وهذا الأمر ليس للجامعة فيه دخل أبدا، بل كل المسؤولية تقع على المدرسة، أما دكاترة الجامعة الجزائرية فأغلبهم معرب ودرس تخصصه بالفرنسية فكيف يمكنه مطابقة معارفه باللغة الإنجليزية ثم نقلها لطالب في مادة يهضمها هضما وبلغة سلسة، فالتكوين بلغة ما ليس هو الترجمة.
إن معركة اللغات الوهمية داخل العقل الجزائري، ليست حقيقية، بل هي عكس ما يدعيه المتقاتلون فيها، فالدولة قد قامت بجهد كبير في تعريب أغلب المؤسسات السيادية وبشكل تام، حتى أصبح المتخصصون يدعون إلى ضرورة المحافظة على انفتاح لغوي داخل تلك الإدارات كي لا تقع فيما قد يقع الفرد بلغة واحدة من انعزال وتأخر عما حوله.
أما ما نراه في الشارع من انفتاح على الإنجليزية، قد يُعجب المعادي للفرنسية بنظرته الضيقة، لكن التكلم بلغة سياحية  لا يعني أبدا التمكن منها تمكنا أكاديميا، فإنجليزية التواصل الشفهي لا يمكن اعتبارها نتاج المدرسة الجزائرية، بل هي نتاج انفتاح الشباب على العالم من خلال وسائل التواصل الإجتماعي، ولو  أردنا أن نربط المشهد اللساني بالمدرسة، فالواجب والمنطقي أن يتكلم المواطن الجزائري البسيط بلغة عربية جيدة وبلغة فرنسية صحيحة نظرا لعدد ساعات التدريس  الكبير  مقارنة بالإنجليزية، وهذا أمر لا يدعمه الواقع.
إن التيار المعادي للغة الفرنسية الحامل لعصا الإنجليزية لا يريد أن يعترف للمواطن البسيط بحقيقة أن الأكاديمية لا دخل لها في الإيديولوجية ولا في حروب الهوية لأن رسالتها علمية بالدرجة الأولى، ومنتوجها معرفي بحت، يمكن استغلاله بعد ذلك إيديولوجيا أو سياسيا، لهذا ما نراه من حركات صاخبة تشبه فيلا هائجا داخل غرفة مليئة بالخزف، قد يدمر آخر ما تملكه جامعاتنا من أسلحة وأدوات اكاديمية أهمها اللغة، فالمهادنون للتيار المعادي للفرنسية قد يصبحون أنجلوفيليين من حيث لا يعلمون،  وربما يذهبون لحد مغازلته بمنتوج أكاديمي في شكل مقالات بالإنجليزية مراجعها كلها فرنسية.
على الجامعة الجزائرية أن تعلم أن التحدي الأكبر هو مواكبة المعارف العالمية لا مغازلة الإيديولوجية، وأن مهمتها هي فتح نوافذ وأبوابا  على عالم العلوم يطل منها الجزائريون ويتنقلون خلالها بين عوالم المعرفة الإنسانية بكل حرية ودون عوائق أهمها اللغة، لذا وجب أن تفكر الجامعة الجزائرية في أن تكون جامعة متعددة اللغات، فالأكاديمية ليست هي التعليم، وما يقتل العقل أولا هو الإنعزال اللغوي.
يجب أن تفكر جامعتنا الجزائرية في إعادة بناء نفسها ، واعتماد لغات أكاديمية معترف بها، هي العربية والفرنسية والإنجليزية، وأن تكون تلك اللغات منفتحة على بعضها بشكل يعطي للفعل الأكاديمي دينامية تحرره من سجن اللغة، فالطالب الذي يتمكن أكاديميا من العربية يمكنه الإجابة على مسابقة في تخصصه طرحت أسئلتها بالفرنسية، وفي الإتجاه الآخر كذلك، والباحث الذي يسيطر أكاديميا على اللغة الإنجليزية، يمكنه تدريس طلبته بها إذا طلبوا ذلك، فالتخصص يبحث عن التمكن من المعرفة أولا.
اليوم بعض التخصصات في الجامعة الجزائرية فقيرة لغويا بشكل رهيب، فالمتخصص في تاريخ الجزائر الذي لا يحسن الفرنسية كيف يمكنه التعامل مع  المراجع التاريخية للجزائر، التي أغلبها بل كلها بالفرنسية، والمتخصص في تاريخ الجزائر القديم كيف يمكنه الدراسة وهو لا يحسن لا اللاتينية ولا الإغريقية ولا الأمازيغية على أقل تقدير. أما المتخصص في الفلسفة كيف يمكنه ادعاء التخصص وهو لا يحسن لغة أجنبية تمكنه من فتح مغاليق المراجع الأصلية.
الجامعة الجزائرية عليها اليوم أن تطور  أنموذجا أكاديميا  خاصا بها يعتمد ثلاث لغات أكاديمية، تضمن به دينامية في التدريس والبحث يساعدها على مواجهة التغيرات الداخلية الدافعة نحو الإنجليزية، دون أن تنجر وراء السيل الشعبي المطالب بالقطيعة مع الفرنسية، وحتى وإن تحققت تلك القطيعة مستقبلا، لا يجب أن تضعف نفسها أكاديميا بالتخلي عن سلاح أكاديمي يضمن لها موطئ قدم في تخصصات معينة وفي جغرافية محددة.
وكما يجب النأي بالمدرسة عن التجاذبات  الإيديولوجية، الأولى أن ننأى بالبحث العلمي عن صراعات إيديولوجية يعلم أهل التخصص أن أغلبها يدخل في الدعاية السياسية ولا دخل له بالأزمات الإجتماعية التي تمر بها الجزائر والتي لا يكون حلها إلا عبر هرم البحث العلمي والعقل الأكاديمي، الذي يرى جوهر المشكلة  قبل أن يتعرض لأشكالها العرضية.