مختار الدبابي يكتب:

الأفارقة في تونس: خيط فاصل بين العنصرية والتخلص من الأعباء

شهدت تونس حملة منظمة لأسابيع ضد هجرة الأفارقة إلى تونس وسط حديث عن تزايد أعدادهم بشكل لافت، ما أدى إلى تدخل الرئيس قيس سعيد في الموضوع خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي ودعوته إلى “ضرورة وضع حدّ بسرعة لهذه الظاهرة”.

تعامل الرئيس سعيد مع الموضوع كقضية أمن قومي، ولذلك صدرت عن مجلس الأمن القومي دعوة واضحة إلى ضرورة “العمل على كل الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والتطبيق الصارم للقانون المتعلق بوضعية الأجانب في تونس ولاجتياز الحدود خلسة”.

ويمكن النظر إلى ظاهرة الهجرة الآتية من جنوب الصحراء وفق مستويين، الأول يتعلق بالأعباء التي تضعها على عاتق تونس، وهذه من حق الدولة أن تعلن فيها رأيها، وتتخذ الإجراءات التي ترى أنها مناسبة للتخفيف عن نفسها خاصة في الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه.

المستوى الثاني هو المقاربة التي تقود الحملة على المهاجرين، وهي مقاربة شعبية، وليست مرتبطة بأعداد محدودة، ولا بهيئة سياسية أو جمعية تتبنى خطابا عرقيا ضد هؤلاء. وهنا يكون الوضع أسوأ لأن الخطاب المعروض يمكن النظر إليه على أنه توجه غالب، وأن العنصرية مشكّل غالب في ثقافة الشعب التونسي، ما يجعل تداعياته خطيرة على المدى البعيد، على صورة تونس وعلاقاتها الخارجية، وخاصة على مدى استيعابها للقيم الكونية.

ولا يفهم سبب تحول الحملة من تحذيرات محدودة في مدينة صفاقس (عاصمة الجنوب التونسي من حيث وزنها الاقتصادي) إلى دعوات لترحيل عاجل واعتقالات على اللون تتم في محافظات تونسية مختلفة. ليس ثمة ما يحوّل القضية من حال إلى حال وبشكل مفاجئ سوى أجندة طارئة لاستثمار وجود هؤلاء اللاجئين في لعبة سياسية داخلية.

والمفارقة أن الحملة العنصرية اخترقت المجال الشعبي التقليدي، الذي باتت تحركه الشعبوية تجاه مختلف الظواهر، إلى الطبقة التي يفترض أنها حامية لقيم تونس والتزاماتها الدولية مثل المنابر الإعلامية وبعض المثقفين والسياسيين، ثم تحركت أجهزة الدولة في تنفيذ الحملة بشكل متسارع بعد خطاب ملتبس للرئيس قيس سعيد بشأن الأعباء التي باتت تفرضها ظاهرة اللاجئين على البلاد، في وضعها المالي والاقتصادي الصعب.

ولا شك أن الرئيس سعيد عليه ضغوط كبيرة من كل اتجاه، بعضها داخلي في ظل حملات إعلامية وسياسية على الإيقافات التي استهدفت سياسيين ونشطاء بارزين، وبعضها الآخر خارجي، وخاصة ذاك الذي يتعلق بموضوع الهجرة.

الاتحاد الأوروبي يضغط على تونس لتقف في وجه موجات الهجرة القادمة من الجنوب، ويطلق بعض التصريحات السلبية التي توحي بأن الوضع في تونس غير مستقر وأن الجارة الجنوبية قد لا تقدر على الإيفاء بتعهداتها في موضوع الهجرة.

والحقيقة أن أوروبا، وخاصة إيطاليا، تستثمر في الوضع الصعب الذي تعيشه تونس لتضغط عليها من أجل القبول بمقاربة غربية انتهازية تحول تونس إلى ملجأ لموجات اللاجئين مقابل مساعدات مالية، وهذا ما قد يفسر ردة الفعل القوية من الرئيس سعيد الذي يبدو أنه يعارض فكرة “توطين” اللاجئين في تونس ولو بشكل مؤقت مقابل دعم مالي فضفاض.

هذا مع الإشارة إلى أن خطط أوروبا بشأن اللاجئين تقوم على تجميعهم في مخيمات في دول جنوب المتوسط على أن تتولى دراسة ملفاتهم وفرص استقبالهم بشكل منظم وحسب حاجتها إلى اليد العاملة، بدلا من مغامرات الهجرة غير النظامية وما يرافقها من مآسٍ.

من حق أي دولة أن تقوم بالإجراءات التي تلائمها. لكن من الضروري أن تقرأ حسابا لنتائج ذلك على المديَيْن المتوسط والبعيد.

وإذا كانت تونس تخطط لتنفيذ حملات طرد جماعي للاجئين، فإنها قد تشجع أوروبا نفسها على انتهاج التمشي نفسه بطرد الآلاف من التونسيين الذين لم يسوّوا أوضاعهم القانونية بعد، والذين لا يتوقفون عن المغامرة بـ”الحرقة” متحدين كل مخاطرها.

ويمكن ملاحظة رد فعل اليميني الفرنسي إيريك زمور حين قال في تغريدة له الأربعاء لاستثمار كلام قيس سعيد إثر انعقاد مجلس الأمن القومي “الرئيس التونسي تحرك لحماية بلاده، فعلينا نحن أن نتحرك لمواجهة الاستبدال الكبير”، في إشارة إلى مزاعم الاستبدال الديموغرافي الذي تتعرض له أوروبا بسبب موجات الهجرة القادمة من الجنوب، والتي تهدد باختفاء سكان القارة الأصليين من الجنس الأبيض، وفق نظرية رونو كامو الكاتب الفرنسي المثير للجدل.

وإذا تخطينا المحاذير الأخلاقية والقانونية التي تواجه محاولات طرد اللاجئين الأفارقة، فإن الحملة لطرد هؤلاء ستصطدم بموانع حقيقية، وهي صعوبة عملية الطرد ذاتها، وإلى أين؟ هل ستعيدهم إلى بلدانهم الأصلية؟ وهل تقدر على فعل ما عجزت عنه إيطاليا وفرنسا بأن تخصص رحلات جوية لترحيل هؤلاء، أم ستلقي بهم على الحدود مع ليبيا التي تسلل منها أغلبهم أم سترحلهم إلى الجزائر التي يقال إنها تجمع اللاجئين الذين يحاولون الدخول إليها وتلقي بهم في الصحراء على حدود تونس أو المغرب، أم ستلقي بهم في البحر؟

إن الخيار الأمني الشعبوي لن يقدر على حل هذه القضية، فيمكن أن يتم القبض على المئات وإحالتهم إلى القضاء أو ترحيلهم، ويمكن تخطئة من يشغلهم في تونس، خاصة في ظل نجاحهم في استبدال عمالة تونسية مدللة ترفض العمل في القطاعات الحيوية مثل الزراعة والبناء.

ويتعلل البعض في تبرير هذه الحملة بادعاء أن تونس المأزومة اقتصاديا لا تتحمل أعباء إضافية، وأن اللاجئين سيزاحمون أهل البلد على المواد الأساسية المدعمة والخدمات الصحية والاجتماعية وعلى مواطن العمل، غافلين عن أمرين:

الأول أن هؤلاء اللاجئين لا يحصلون على أي من تلك الخدمات بشكل منظم، إن نجحوا في الحصول عليها، وأنهم لا يشتغلون سوى في المهن المتروكة من التونسيين وبأسعار رخيصة ودون أي ضمانات.

والثاني أن التونسيين الذين يغامرون بالهجرة إلى أوروبا يحصلون على الخدمات نفسها التي يحصل عليها سكان البلد الذي يلجؤون إليه، فكيف يقبلون بهذه المفارقة.

لن يحل الخيار الأمني المشكلة، وستكون نتائجه سيئة على صورة تونس الخارجية، ويحرك ضدها المنظمات الحقوقية والإنسانية، الأمر الذي سيزيد من متاعبها ويعرقل مساعيها في الحصول على دعم المؤسسات المالية الدولية.

لكن الأخطر في هذه الحملة الأمنية، التي بدأت تنتشر بسرعة بعد خطاب قيس سعيد أمام مجلس الأمن القومي، أنها ستحرك مشاعر العداء ضد الأجانب، وهو عداء قائم وقديم، ومن شأن هذا التصعيد الشعبوي أن يدفع به إلى أقصى مدى.

صحيح أن تونس كانت سبّاقة في القضاء على الرق، لكن ذلك القرار التاريخي لا يبدو أنه كان يعبر عن ثقافة مجتمعية بل هو قرار سياسي، ذلك أن المجتمع التونسي تحكمه نظرة استعلائية عنصرية تجاه الآخر في المطلق، ضد الجنسيات العربية والأوروبية، وفي الداخل أيضا بين مختلف المناطق، ويمكن تتبع المقولات الشعبية لاكتشاف هذا الاستعلاء المرضي.