محمد أبوالفضل يكتب:

المستثمرون قادمون: مخاطر الصورة المبتورة في مصر

القاهرة

مع الحديث عن بيع أصول مصرفية وخدمية وإنتاجية وعقارية وغيرها، تحتاج الحكومة المصرية أن تقدم المزيد من التفاصيل حول المؤسسات والشركات المطروحة للبيع كي لا يشعر المواطنون أن بلادهم تستنزف لصالح حفنة من المستثمرين.

تشير وقائع عديدة إلى أنه لا مشكلة لدى المصريين في بيع أسهم وطرح صكوك إسلامية وسندات دولارية، أو خصخصة محطات وقود وشركات خاسرة، لكن المشكلة أن الحكومة تقدم صورة غير كاملة وسريعة عن مجالات قررت طرقها لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، وتطلب ببراءة من المواطنين أن يتفهموا رؤيتها من دون توضيح كاف، وأثبتت القرارات الفوقية التي اتخذتها أنها لا تأتي بالنتيجة المرجوة منها.

هناك حزمة من النماذج الدالة على أن الصورة التي تعرضها الحكومة مبتورة بدرجة مخيفة، وتحمل من الدلالات ما يثير الشكوك فيها، فعندما تحدثت عن تعديل قانون هيئة قناة السويس لإنشاء صندوق خاص لإدارة أرباحها قدمت جانبا واحدا وهو تعظيم الاستفادة من موارد القناة وتركت الأسئلة الصعبة بلا إجابات، حتى لعبت دورا في إثارة شبهات حول مشروع القانون وتبعاته السياسية والأمنية، ثم اختفى حاليا من طاولة النقاش العام، ولا أحد يعرف هل تم تجميده أم جرى وأده تماما.

تحتاج الحكومة إلى إعادة النظر في الطريقة التي تتعامل بها مع عمليات البيع وتقدم التفاصيل الوافية لإنهاء أزمة الثقة بينها وبين شريحة من المواطنين تبنّوا مواقف سلبية منها بسبب عجزها عن توصيل رسالتها بشفافية تامة

فاجأت الحكومة المواطنين منذ أيام قليلة باستيراد أطنان من الدجاج المجمد من البرازيل وطرحتها في الأسواق بأسعار زهيدة مقارنة بما هو موجود، وهي التي ظلت تشكو من نقص كبير في الدولار، وشددت على وقف كل ما يمكن وقفه من السلع المستوردة لتخفيف الأزمة المحتدمة في العملات الأجنبية.

قد تكون الحكومة حلّت مشكلة ارتفاع أسعار اللحوم البيضاء بالاستيراد العاجل من البرازيل، غير أنها لم تكشف من أين حصلت على الدولارات التي مكنتها من إتمام هذه العملية وهي تشكو شحا فاضحا في العملات الصعبة، وما هو مصير العاملين في مجال تربية الدجاج، وكيف ضجت القاهرة من الإسراف في استيراد الأعلاف اللازمة لتغذية الدواجن في الداخل ولا تقلق من استيرادها للدجاج.

يبدو المسؤولون في الحكومة المصرية كأنهم يتعمدون تقديم رؤية مشوهة لكثير من التصورات والإجراءات والقرارات، أو يريدون إثارة الحيرة لدى المواطنين، وهي سياسة تنم عن جهل أو ارتباك، أو الاثنين معا، ما يجعل الكثير من التحركات النبيلة التي تقوم بها عرضة لانتقادات واتهامات وتأويلات خاطئة، لا تحقق الغرض منها، حيث يتم استبدال المشكلة بأخرى نتيجة عدم توضيح الصورة كاملة.

لفهم الجهل والارتباك تفسيرات مختلفة، منها: قلة الخبرة في إدارة الجهاز العام للدولة بسبب ما يكتنفه من تعقيدات وبيروقراطية عتيدة، والتضارب بين الجهات المسؤولة عن إصدار القرارات ومتابعة تنفيذها على الأرض بما يؤدي إلى محدودية التعاون والتنسيق بين الجهات المعنية، بجانب ترك بعض المشكلات حتى تصل إلى ذروتها ثم يتم التعامل معها بعد أن تصطحب معها تداعيات يصعب تطويقها بسهولة.

مهما كانت مبررات الغموض لأسباب أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية، فهو لن يكون بنّاء بالمرة، بل يتحول في كثير من الأحيان إلى منهج هدام ويسيء إلى الطريقة التي تدير بها الحكومة القضايا الحيوية.

فقد أعلنت قبل أيام عن طرح 32 شركة للبيع، وتركت الأمر بشأنها بلا توضيح واف لطبيعة كل مؤسسة والأسباب التي دفعتها لتختارها للطرح الآن، والمصير الذي سوف تصبح عليه بعد أن تتخلى عنها تماما أو تبيع نسبة محدودة فيها.

تقود كثافة التساؤلات بلا إجابات عنها إلى زيادة نطاق اللغط في المجتمع، وتؤدي إلى إثارة شبهات حول كل خطوة جادة تقوم بها الحكومة في مجال عمليات البيع أو غيرها من السياسات التي تتبناها بهدف إيجاد حلول عاجلة لأزمة اقتصادية لا تبدو حلولها الفعالة قريبة، وتفتح في النهاية الباب لمخاوف من الآليات التي تستخدمها.

ما لم تتمكن الحكومة من تقديم إجابات شافية لما يتردد في الشارع المصري سوف تزداد معاناتها، خاصة وهي قادمة على طرح مؤسسات قد تمس وجدان شريحة من المواطنين تربوا على صعوبة المساس بها

ما لم تتمكن الحكومة من تقديم إجابات شافية لما يتردد في الشارع المصري سوف تزداد معاناتها، خاصة وهي قادمة على طرح مؤسسات قد تمس وجدان شريحة من المواطنين تربوا على صعوبة المساس بها أو الاقتراب منها، وترسخت لديهم قناعات بأنها جزء من الميراث العام الذي لا يجب الاقتراب منه.

لم تتعلم الحكومة من إخفاقاتها السابقة في التعامل مع تطبيق قوانين من نوعية، مخالفات البناء على الأراضي الزراعية والمصالحات فيها، والفاتورة الإلكترونية، والصندوق الخاص لقناة السويس، فضلا عن جملة خطوات اتخذتها ولم تستكملها واضطرت إلى تجميدها أو ترحيلها أو غض الطرف والتراجع عنها.

ترك التعامل مع تطورات كثيرة انطباعات سلبية بأن الحكومة لا تدرس قراراتها جيدا، وأن قابليتها للاستجابة للضغوط الشعبية عالية، وارتباكها في حل المشكلات بلغ حدا مخيفا، وكلها أسباب تصلح لفهم نقص شفافيتها في بعض الإجراءات، بدرجة تجعلها مجبرة على تقديم صورة رمادية يستطيع كل شخص أن يستشف منها ما يريده، ويمكنها أن تتراجع إذا وجدت النتيجة مخيبة وفي غير صالحها.

تحفل الصورة المبتورة التي تقدمها الحكومة بتفسيرات عدة، أبرزها أنها تبدو وكأنها تقوم بعمل غير مشروع، وتكتنف خطواتها نوايا غير إيجابية، ومهما كانت قناعة المسؤولين فيها بمشروعية العمل وجدواه وحسن النوايا والرغبة في تطوير الدولة وتحسين أحوال المواطنين يظل ذلك محدودا ولن تصل رسالته إلى شريحة من المصريين تتملكهم هواجس نحو كل تحرك تقوم به الحكومة، فما بالنا لو كان العمل مبتورا؟

تلحق الصورة غير الكاملة في مشروعات الخصخصة أذى كبيرا بتوجهات الحكومة، فإذا كانت صورتها في الداخل مهزوزة لقلة الوضوح، فإن النتيجة ستكون أشد خطورة مع الجهات التي تتعامل معها في الخارج، والتي تعول عليها الدولة في حل الأزمة الاقتصادية من خلال نجاح عمليات البيع وزيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية.

يفضي الغموض في هذه الحالة إلى شكوك ربما لا تمكن الحكومة من الحصول على ما تريد من وراء توجهها نحو الخصخصة وجني مكاسب منها، والتي يمكن أن تمتد إلى شركات حيوية ومطلوب أن يكون المشتري والجهات المشترية على دراية بكافة التفاصيل كي يقدم أو يحجم عن الشراء وما يليه من تطورات للتعامل مع البيئة الداخلية وخروج الحكومة كليا أو جزئيا من بعض الشركات لا يعني انتهاء مسؤوليتها.

تحتاج الحكومة إلى إعادة النظر في الطريقة التي تتعامل بها مع عمليات البيع وتقدم التفاصيل الوافية لإنهاء أزمة الثقة بينها وبين شريحة من المواطنين تبنّوا مواقف سلبية منها بسبب عجزها عن توصيل رسالتها بشفافية تامة.