هيثم الزبيدي يكتب:
تعيينات قيادية في الإمارات أبعد ما تكون عن التقليدية
توحي إعلانات المباركة في الصحف الإماراتية التي صاحبت قرارات رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لغير العين الخبيرة بالشأن الخليجي، أن الأمر يرتبط فقط بتعيينات مهمة كانت منتظرة في الدولة. لكثيرين في العالم العربي ممن بقوا أسرى الصور النمطية عن دول الخليج، يبدو الأمر إعادة توزيع للمناصب. سيفوّت البعض، وربما كثيرون، أهمية الأسماء التي تم تعيينها في مناصب مفصلية، بعضها تم استحداثه ليتناسب مع تغيرات كبرى في بلد محوري في المنطقة. القياديون في دولة الإمارات غير معروف عنهم الظهور الإعلامي. كثيرون منهم، خصوصا ممن تقلدوا مناصب رفيعة في الدولة، لا يحبون الأضواء ويقلّون من التصريحات ويحرصون على أن يستعينوا على قضاء مهامهم بالكتمان.
لكن واقع القرارات مختلف تماما. التعيينات ستترك آثارا محسوسة عالميا وإقليميا. دولة الإمارات في قلب التحولات العالمية الكبرى. ومن الصعب بمكان توصيف الدور الإماراتي الحاسم في الكثير من القضايا. وفي قلب هذه القضايا كان القياديون الإماراتيون من أحدث الفرق، وأوصل المنطقة إلى حالة من الهدوء والتقاط الأنفاس، بعد هزات كبيرة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، ليس آخرها ما يسمّى بالربيع العربي أو تداعيات تغير التوازنات العالمية بصعود قوى كبرى على حساب هيمنة الغرب، وصولا إلى حرب أوكرانيا وأسعار الطاقة والغذاء.
بالعودة إلى المسميات القيادية التي سبقت التعيينات الأخيرة، نجد أن أسماء الشيوخ هزاع وطحنون وخالد ترتبط بالأمن الوطني كمستشارين أو نواب مستشارين، أو العمل الحكومي في عضوية المجلس التنفيذي في أبوظبي، في حين يرتبط اسم الشيخ منصور على مدى سنوات بديوان الرئاسة، وهو الموقع البارز في آليات التنسيق بين مؤسسات الحكم الاتحادية في دولة الإمارات، بالإضافة إلى ارتباط الشيخ منصور ومنصبه بعلاقات دولة الإمارات مع دول العالم واستقباله المستمر للزعماء وكبار الشخصيات. التعيينات الجديدة هي تتويج لأدوار مهمة لمخضرمين في السياسة والعمل الحكومي وفي توجيه اقتصاد البلد من خلال صناعة النفط أو الاستثمارات أو العمل المصرفي. في العادة يستقبل الإعلام الغربي مثل هذه التعيينات بالتشكك أو التعليقات السلبية. لعلها المرة الأولى التي نجد فيها أن الكتّاب الغربيين علّقوا بإيجابية على التعيينات، لأنهم ومن خلفهم حكوماتهم، يقدّرون الإمكانيات المتميزة لهذه الصفوة القيادية الإماراتية. القياديون في دولة الإمارات متكتمون إعلاميا، لكن أيّ سياسي مهم في العالم أو أيّ إعلامي مطّلع سيقول لك إنهم من أكثر الفاعلين على المسرح الإقليمي والدولي.
الرسالة التي أراد الشيخ محمد بن زايد تأكيدها في التعيينات الأخيرة هي الاستمرارية. هذه منظومة حكم أسّسها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، واستمرت في عهد الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان بتعزيز وحضور قوي ومؤثر للشيخ محمد كولي لعهد أبوظبي. هذه منظومة حكم شابة وكفؤة، لكن هذا لا يمنعها من الاستعداد والتهيئة لجيل شاب من القيادة محاط ومؤازر من جيل مخضرم بالخبرة.
المسميات القيادية الجديدة لم تلغ المهام الكبيرة التي يضطلع بها الشيوخ هزاع وطحنون ومنصور. فبالإضافة إلى العمل الحكومي الاتحادي وعلى مستوى إمارة أبوظبي، فإن من مهام هذه القيادات رئاسة وتوجيه قطاعات استثمارية، داخلية وخارجية مهمة. دولة الإمارات من أوائل الدول التي عملت على الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط والبحث عن ترتيبات استثمارية وصناعية تكفل الرخاء للأجيال القادمة. الصناديق الاستثمارية السيادية الإماراتية جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي. اختر أيّ قطاع حيوي في العالم، وستجد أن قسما معتبرا منه مملوك لهذه الصناديق. المجموعات القابضة التي تحت رئاستهم، تغير من خريطة الشركات الحكومية وتحولها إلى مؤسسات ربحية. مجلس إدارة مؤسسة النفط تحرك من قبل أزمات الطاقة التي يواجهها العالم حاليا وعمل على تطوير الإنتاج وتنويعه وتعزيز المناورة الإستراتيجية في شحن النفط بعيدا عن مخاطر مضيق هرمز. السياسة في التعامل مع عالم متغير في مراكز القوى الكبرى التي اختطها الشيخ محمد بن زايد مبكرا، أوكل تنفيذها لهذه الصفوة القيادية من الإخوة. هذا الإدراك المبكّر بأن العالم لم يعد رهنا للغرب، جعل الشيوخ يدفعون أبناءهم لتعلم الصينية والكورية وغيرها من اللغات للقوى الصاعدة. الحس البيئي الذي ورثه أبناء الشيخ زايد عن أبيهم حاضر في كل قراراتهم.
يأتي تعيين الشيخ منصور بن زايد كنائب لرئيس الدولة تطورا ملحوظا للنسق السياسي والبروتوكولي الذي ساد منذ تأسيس دولة الإمارات. الدولة الاتحادية التي أصبح عمرها الآن نصف قرن تجاوزت مراحل التأسيس التي كان من أهم معطياتها توزيع المناصب القيادية في الدولة بما يعكس تركيبتها من إمارات بنزعة شبه مستقلة ولكن تحت مظلة اتحادية. لعل من اللافت الإشارة إلى الاحتفاء الكبير الذي أبداه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة وحاكم دبي بتعيين الشيخ منصور بمنصب نائب الرئيس. هذه لحظة سياسية فارقة تنتقل بدولة الإمارات من مراعاة التوازنات، إلى استحداث المنصب القيادي بما يتلاءم مع الدولة العصرية ومتطلبات العمل الاتحادي مع الأخذ بالاعتبار الدور المتقدم لأبوظبي في الدولة الاتحادية.
يبرز في القرارات تعيين الشيخ خالد بن محمد كولي لعهد أبوظبي. القرار يثبّت الانتقال العمودي بين الأجيال. الشيخ خالد مارس مهام قيادية كثيرة في الأمن الوطني والمجلس التنفيذي لحكومة أبوظبي، ومثّل أباه في أكثر من مهمة وتكليف. ولعل إسناد منصب رئيس المجلس التنفيذي لولي عهد أبوظبي تقليديا هو البعد غير الملحوظ دائما والذي يصاحب اختيار ولي العهد. المجلس التنفيذي في أبوظبي هو الحكومة المحلية وعليه تقع مهمة تسيير العمل الحكومي في الإمارة أسوة ببقية الإمارات الأخرى. هذا ما يجعل منصب ولي العهد أبعد ما يكون عن المنصب الفخري.
إلى جانب قرار تكليف الشيخ خالد برئاسة المجلس التنفيذي، قرر الشيخ محمد بن زايد إعادة تشكيل المجلس. ومن الواضح من الاختيارات أنها استمرار لأغلب أعضاء المجلس (أعضاء مجلس الوزراء المحلي أو رؤساء الدوائر) في مناصبهم. لكن اللافت أيضا أن أيّا من أعضاء المجلس ليس من الأسرة الحاكمة، مما يحول دون أيّ تقاطعات في مرحلة تأسيسية مهمة للشيخ خالد على الرغم من أنه ترأس اللجنة التنفيذية في المجلس التنفيذي لسنوات، وهي اللجنة النافذة في تركيبة المجلس والمسؤولة عن توجيه وتنفيذ قراراته.
المجلس التنفيذي هو المؤسسة التي تتواصل مع المواطن الإماراتي في أبوظبي في كل ما يتعلق بحياته. وهذا ما يجعل ولي العهد على تماسّ مباشر مع المواطن. وهذه ليست بالمهمة السهلة في مجتمع تعوّد أن يذهب إلى الحاكم أو ولي العهد مباشرة ليطلب منهما أو يقول لهما ما في باله. المواطن الإماراتي اليوم أكثر تعليما واطلاعا من الأجيال السابقة، لكن في قلب العلاقة بينه وبين حكامه هو الإحساس بأنه يذهب إلى شيخه، أو معزبه، ليجالسه ويسمع منه ويطلب ما يحتاجه. هذا التواصل الذي حافظ عليه الراحل الشيخ خليفة عندما كان وليا للعهد والشيخ محمد في ولايته للعهد وبعد توليه الحكم والرئاسة، سيكون أساسا في ترسيخ علاقة الشيخ خالد بالناس.
الشيخ خالد يتولى ولاية العهد وقد سبقه والده بسنوات من العمل والتنمية والعمل المجتمعي وتعزيز البنية التحتية والتأثير الثقافي، وفي وقت تنعم فيه إمارة أبوظبي بعائدات من الاستثمار وفيض من الريع النفطي. هو من شهود هذا الازدهار، واليوم هو رمز لاستمرارية العهد وما حققه.
الإعلانات في الصحف التي تبارك التعيينات وتضع صورة الشيخ محمد وسط إخوته وابنه، رغم تركيبها التقليدي، إلا أن التعيينات والأشخاص أبعد ما يكونون عن التقليديين.