هيثم الزبيدي يكتب:
تصفير المشاكل، أم صنع المشاكل أم السعودية أوّلا؟
السعودية لا تتوهم أن قيادتها لتحالف أوبك+ خلال الأعوام الماضية ليست مشروعا لإثارة المشاكل بينها وبين الولايات المتحدة. السلوك العدواني لواشنطن الذي وجه خصوصا نحو القيادة السعودية الشابة، ترد عليه الرياض بسلوك متنمر، يبدأ بالنفط، وبالتأكيد لا يتوقف عند حدود تطوير العلاقة مع الصين إلى درجة تزعج إدارة جو بايدن بشكل كبير. قرار أوبك+ المفاجئ قبل أيام بتخفيض الإنتاج بما يعادل مليون برميل يوميا لم ينلْ استحسان الولايات المتحدة، ليس فقط لأن القرار حرك أسعار النفط تصاعديا، بل لأن السعودية أصبحت قادرة على التنسيق العالي مع جميع أعضاء التحالف، وإقناعهم بضرورة التجاوب مع التخفيض، أو حتى دفعهم إلى تخفيض الإنتاج، من دون أن يتم رصد الأمر أميركيّا.
لم تصل العلاقة بين البلدين إلى حالة من التأزم الإستراتيجي. لعل مقولة “هذا من بعض ما عندكم” تفيد هنا، خصوصا عند النظر إلى الطريقة التي استبقت بها إدارة بايدن وصولها إلى الحكم، بتصنيفها السعودية بلدا ينبغي تهذيبه. هذا التعالي في التعامل كان ثمنه غاليا. رضاء إدارة بايدن ليس أولوية الآن لدى القيادة السعودية. مازلنا ننتظر ما إذا كانت الرياض تعامل الولايات المتحدة على أنها إدارة بايدن أم لا، وما إذا كان توتر العلاقة سيتراجع بوصول إدارة أميركية جمهورية إلى البيت الأبيض.
هل من مصلحة السعودية إضعاف موقع الولايات المتحدة عالميا؟ أم أن القيادة السعودية رصدت تراجع موقع واشنطن عالميا فغيرت مراهنتها المطلقة على الدعم الأميركي بتغيير طبيعة علاقتها مع الولايات المتحدة أولا، وثانيا تنويع خياراتها لتشمل الصين بدرجة رئيسية وبقية القوى الصاعدة عالميا؟
مشكلة العلاقة مع الولايات المتحدة أنها أيضا علاقة مع كل الغرب. صحيح أن الدول الغربية عموما صامتة على قرارات أوبك+، وإنْ تذمرت فإنها تشير في تذمرها إلى أن زيادة الأسعار المرافقة لتخفيض الإنتاج ستصب في صالح المجهود الحربي الروسي. لكن نعرف مما يدور الآن في أوروبا أنه لا يوجد الكثير من الخطوط الفاصلة بين مواقف الأوروبيين ومواقف الولايات المتحدة عندما تصبح القضايا مصيرية. وأسعار النفط والغاز من تلك القضايا المصيرية.
لا نعرف ما تقوله واشنطن للرياض في الغرف المغلقة. لكننا متأكدون من أن الإدارة التي بدأت حكمها بالتهديدات تلوّح بالكثير من الأوراق حين تناقش السعوديين. صار من الكليشيهات المكررة ترديد الصحف الغربية ومراكز البحوث مقولة مثل “إن مقاتلات أف – 15 السعودية لا يمكنها أن تحلق من دون قطع الغيار الأميركية والتقنيين الأميركيين الذين يشرفون على صيانتها”. جربت واشنطن أيضا أن تسحب بطاريات صواريخ باتريوت في مرحلة حرجة من مراحل المواجهة السعودية – الإيرانية. ما نعرفه أن التلويح بعدم مدّ المملكة بقطع غيار هذا النوع من الطائرات وسحب صواريخ باتريوت لم يغيّرا مواقف السعودية. بل بالعكس، الحديث الآن متزايد عن الابتعاد بشكل جزئي عن التعامل مع الآخرين بمقاصات الدولار بعدما أعلنت الرياض مؤخرا عن تجارة مع الصين أساسها اليوان. هذا لعب خطر جدا لن يمر بسهولة.
ترى الولايات المتحدة أن ضغوطها على الدول المنتجة للنفط حقّ مكتسب لا تريد التنازل عنه؛ فحين تراجعت أسعار النفط إلى مستويات تهدد إنتاج النفط الصخري الأميركي طلبت إدارة دونالد ترامب من الدول المنتجة تخفيض الإنتاج كي لا تفلس الشركات الأميركية المنتجة، أما إدارة بايدن فتطلب زيادة الإنتاج لمنع صعود الأسعار، وذلك لأسباب إستراتيجية وداخلية. وأحيانا لا تعرف الدول المنتجة ما هو المطلوب بالضبط، زيادة الإنتاج أم تقليصه عندما تتصدى الولايات المتحدة، أكبر دولة مسؤولة عن الاحترار البيئي في العالم، لقضية الطاقة النظيفة.
لست خبيرا اقتصاديا، لكني أعرف أن النفط هو أهم سلعة أساسية إستراتيجية في العالم. لكن ماذا عن الشرائح الإلكترونية اليوم؟ بالتأكيد هي سلعة أساسية إستراتيجية مثلها مثل النفط. من دون معالجات وشرائح ذاكرة، من الصعب تخيل الحياة المعاصرة مثلما يصعب تخيلها من دون طاقة. لكن من حق الشركات الكورية، مثل سامسونغ، أن تخفض إنتاجها من شرائح الذاكرة مثلا بمقدار النصف لمواجهة التخمة في سوق الشرائح من دون أن تسمع أية تهديدات من الولايات المتحدة بخصوص ارتفاع أسعار الشرائح. لا شك أن هذه المعاملة تنتمي إلى المعايير المزدوجة؛ يحق لسامسونغ ما لا يحق للسعودية.
بما أن تهديد أوبك+ والسعودية لم يجد نفعا تغيرت نبرة الخطاب إلى التخويف: ارتفاع أسعار النفط في هذا الوقت بالذات سيقود العالم إلى التضخم ثم الكساد، ومع الكساد ستتضرر دول تحالف أوبك+ وتتراجع اقتصاداتها. هو نوع من خلط الحقائق بالمبالغات لتحقيق غاية سياسية آنية. الولايات المتحدة ليست من الدول المعروفة بالخجل عندما يكتشف العالم أساليبها، أو حتى أكاذيبها.
لكنها تبقى الولايات المتحدة، القطب العالمي الأكثر تقدما تكنولوجيا والضاغط إعلاميا وسياسيا والقادر على التأثير بشكل كبير في الغرب وبقية العالم. هل هي القوة العظمى الوحيدة الآن؟ من الصعب الجزم بذلك في الوقت الراهن. لكنها بالتأكيد قوة لا يمكن التعامل معها على أنها في طور الانحطاط أمام قوى أخرى صاعدة. هذا الدرس تعلمته روسيا جيدا الآن في حربها ضد أوكرانيا، حين قدمت واشنطن لكييف أسلحة فتاكة من قبيل صواريخ جافلن المحمولة على الكتف والتي أجبرت المدرعات الروسية على الانسحاب بعد أن كانت بصدد اقتحام كييف، أو صواريخ هيمارس الدقيقة التي بدأت باستهداف التجمعات الروسية في مسرح عمليات شرق أوكرانيا. منْ لديه القدرات التقنية لاستهداف أنابيب الغاز الروسي تحت البحر، ومن لديه القدرات السياسية والإعلامية لمنع إثارة موضوع التخريب؟ إنه الولايات المتحدة.
لا شك أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة غير مرتاحة لتوتر العلاقة مع السعودية، مثلما لا يريحها التقارب السعودي – الصيني أو مشروع إعادة العلاقات مع إيران أو التصالح معها. تصريحات رئيس المخابرات الأميركية وليام بيرنز تشير إلى التعاون الاستخباري مع الرياض في العلن، ويتم تسريب التذمر عبر المصادر الصحفية. وهو ما تدركه القيادة السعودية كما يبدو، ولا تعيره اهتماما.
لا يمكن القول إن السعودية تتبنى سياسة “تصفير المشاكل” فقط لأنها أرسلت وزير خارجيتها أو مستشار الأمن القومي إلى بكين للقاء الإيرانيين، أو إنها تتبنى سياسة “صنع المشاكل” لإهمالها توتر العلاقة مع الولايات المتحدة بسبب تحالف أوبك+ والعلاقة مع الصين. بنفس القدر لا يمكن القول إن سياسة “السعودية أوّلا” كافية لتفسير التغير في طريقة إدارة علاقات الرياض مع الغرب والشرق. ربما هي خليط من كل هذا، لكنها بالتأكيد خليط خطر وله عواقب.