محمد أبوالفضل يكتب:
مصر وفهم الخليج الجديد
هناك إشكالية عميقة في العوامل الحاكمة للعلاقة بين مصر ودول الخليج بسبب عدم قدرة القاهرة على استيعاب حجم التحولات فيها في ما يتعلق بالتوجهات الاقتصادية الجديدة والتغيير الحاصل في الرؤى السياسية والتقديرات الأمنية، والتي حملت في جوهرها محددات قلبت موازين إقليمية مستقرة حول آليات التعامل مع دول الخليج.
ولا تنحصر المشكلة في عدم استيعاب القاهرة لحجم التغير فقط، بل في تلميحات ظهرت من بعض دول الخليج لحث مصر على التغير أيضا بما يواكب التطورات المتسارعة، وهو ما كشفت عن بعض من تفاصيله “وول ستريت جورنال” أخيرا عندما أشارت إلى مطالب سعودية عديدة من مصر كي تعود العلاقات إلى ما كانت عليه.
تعاملت الرياض والقاهرة مع تقرير الصحيفة الأميركية بصمت رسمي، ولم تكذبه الأولى أو تعلق عليه الثانية، وغالبية المغردين في البلدين ممن دخلوا على خط الأزمة الأخيرة بينهما تراوحت تقديراتهم بين وصف التقرير بالحقيقة، والخرافة أحيانا.
بجانب رأي ثالث قد يكون أكثر أهمية وهو الذي تعامل مع التقرير على أنه رسالة سعودية مبطنة أو مسرّبة بأن زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى جدة واللقاء مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لم تغير شيئا في رؤية الرياض لما يجري في القاهرة.
إذا كان هدف زيارة السيسي هو التعاون والتنسيق في المواقف الإقليمية يمكن القول إنها أزاحت شكلا أي صدام محتمل يمكن أن يتمخض عن عملية عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في قمة الرياض العربية في مايو المقبل، أما إذا كان هدفها اقتصاديا فالرسالة وصلت عن طريق “وول ستريت جورنال” ومفادها لم يتغير شيء حتى الآن.
يحتاج فهم الخليج إلى يقين بأن هناك قيادات جديدة لها رؤى اقتصادية وتعمل على تعظيم مواردها تحسبا لتقلبات المستقبل، إذ تدرك أن دولة الرفاهية القائمة على النفط والغاز في سبيلها إلى زوال بعد عقود قليلة، ما يفرض البحث عن طرق أخرى لعدم الوصول إلى حد الندرة، خاصة أن هناك تمسكا بالسياسة الريعية في الاقتصاد.
تجد دول الخليج في مصر فرصة اقتصادية جيدة ومحفزة وآمنة اجتماعيا وسياسيا أيضا، وبصرف النظر عن البراغماتية التي تتسم بها هذه السياسة، فإن هذه الدول، خاصة السعودية والإمارات والكويت، قدمت لمصر مساعدات سخية على مدار العقد الماضي ولم يكن المردود الأمني والسياسي مناسبا لها.
يلعب فائض القيمة دورا مهما في التوجه نحو مصر بشروط جديدة، وهو ما تعمل القاهرة على التأقلم معه، غير أن ترددها في الذهاب إلى أبعد مدى يقلل من وثوق دول الخليج بها، ويجعلها تتجه نحو زيادة التدفقات الاستثمارية في دول أفريقية تبدو مهيأة للتفاهم معها بمزايا تفضيلية كبيرة، وما لم تدرك القاهرة أن ثمة بدائل خليجية لا تقل أهمية قد تجد قطار الاستثمارات الواعدة تجاوز محطتها.
هناك رؤية مصرية تعتقد في ضرورة استمرار ما بات يعرف بـ”نظرية الرز (الأرز)”، التي شاعت في وقت سابق من خلال تسريبات ظهرت على ألسنة مسؤولين في القاهرة، قوامها أن دول الخليج تملك فائضا كبيرا من الأموال ويمكنها أن تمنح مصر جزءا منه على شكل منح ومساعدات ولن يضيرها أو ينقص من أموالها شيئا.
عبّر تشبيه بعض العاملين في حقل الرياضة المصرية حيال رئيس هيئة الترفيه في السعودية المستشار تركي آل الشيخ بأنه “شوال رز” عندما كان سخيا مع بعض الأندية عن رؤية قاصرة بأن الرجل ينفق ببذخ أو بلا حساب، لأن كل إنفاق ولو بدا وفيرا أو في غير محله يجب أن تكون له مردودات معنوية ومادية مباشرة أو غير مباشرة.
يعد الفرق في التفسيرين المصري والسعودي لنظرية “شوال الرز” عنصرا مهما لمعرفة مكمن الخلل أو اللاتوازن بين القاهرة والرياض، فهناك إنفاق ربما يصل إلى حد البذخ لكنه محسوب بدقة وينطوي على فوائد ليس بالضرورة أن تكون معروفة.
تبدو مفردات مثل العواطف والوشائج العربية في غير محلها، وحلت مكانها المصالح وحجم المكاسب والخسائر، ما يشكل مركز الأزمة في فهم القاهرة لما يدور في الخليج الذي لم تعد غالبية دوله قاصرة في مفهومها الأمني والإستراتيجي على مصر أو حتى الولايات المتحدة التي تولت مسؤولية أمن الخليج العربي على مدار العقود الماضية، فثمة تحولات كبيرة تشير إلى أن التغير بدأ يطال هذه المعادلة.
مع الانفتاح السعودي، والخليجي عموما، على الشرق والغرب، فضلا عن تحرك مسار التطبيع سريعا مع إيران، سوف يضيق هامش الحركة أمام القاهرة في الخليج بعد فقدانها المزايا الأمنية ولو بصورة شكلية، وستكون مضطرة إلى القبول بالصيغة الجديدة أو التعامل مع فترة طويلة من الفتور السياسي لن يتسع إلى حد القطيعة، فكل طرف حريص على ألا تصل العلاقات إلى الجمود التام.
تقوض الأزمة الاقتصادية في مصر هامش المناورة على مستوى ما يتردد من أنها مطالب سعودية ظهرت في توقيت بالغ الحساسية، حيث تمثل الاستجابة لها رضوخا غير مألوف تاريخيا للقاهرة، ورفضها يقود إلى البقاء في مربع الفتور مدة طويلة.
وفي الحالتين تعبر هذه الحالة عن مدى التغير في توجهات القيادة السعودية، والتي لديها طموحات إقليمية ودولية كبيرة لن تستطيع نظيرتها المصرية مجاراتها في الوقت الراهن على الأقل، فالأزمة الاقتصادية الضاغطة تمثل كابحا قويا، ومن المتوقع أن تفرض على القاهرة القبول بخيارات صعبة.
ربما يكون هناك فهم حقيقي لما يجري في الخليج، فلم تعد المسألة تتحمل إنكارا أو تجاهلا، لكن مصر تدرك أن انعكاسات هذا الفهم والعمل بمقتضياته يمكن أن يصبحا مكلفين لها، ويخلان بالتوازنات التي تريدها في المنطقة حفاظا على مصالحها، فالاقتصاد المأزوم لن يسمح لأي دولة في حجم مصر أن تقوم بالأدوار التي تتطلع إليها.
إذاً القضية تتجاوز في المحصلة النهائية فكرة فهم أو عدم فهم الخليج الجديد، وتتعلق بطقوس التعامل معه، فما يحدث من تغير في التوازنات بسبب طموحات السعودية سوف يؤدي إلى خروجه من دائرة الفتور وعدم السيطرة على محددات الهدوء.
تحاول الرياض عدم الوصول إلى هذه النقطة من خلال التجاوب مع مساعي التعاون والتنسيق وفقا لشروط معينة، وتسعى القاهرة لإيجاد الصيغة التي لا تعيد الأجواء إلى ما كانت عليه في فترة الستينات من القرن الماضي، مع تبادل في الأدوار، حيث تلعب سعودية الأمير محمد دور مصر جمال عبدالناصر في القيادة والرغبة في الزعامة، وهي اللحظة التي لا يتمنى الكثيرون الوصول إليها، حيث تفضي إلى شرخ سوف يرخي بتداعياته السلبية على الأمة العربية برمتها.