باسم فضل الشعبي يكتب:

ما الذي يحدث في عدن؟

العاصمة عدن شهدت يوم السبت الماضي حدثاً جماهيرياً لم يكن معتاداً منذ سنوات خلت، لاسيما منذ ما بعد تحرير المدينة في يوليو 2015.

لقد زحفت الجماهير من مختلف مناطق ومدن الجنوب إلى ساحة العروض "الحرية" في مديرية خور مكسر، الواقعة في قلب العاصمة الساحلية الجاذبة. الهدف كان واضحاً وهو المطالبة بالكشف عن مصير المقدم علي عشال الجعدني المختطف منذ يونيو الفائت، من قبل قوات مكافحة الإرهاب لقد مر شهران كما يبدو ولم تتمكن السلطات الانتقالية والشرعية الكشف عن مصير عشال رغم الضغط الشعبي المستمر على كافة الأصعدة إعلامياً وسياسياً وجماهيرياً، والذي نجح في تحويل الحادثة إلى قضية رأي عام تجاوزت الداخل اليمني.

إلى جانب عشال تكشف المعلومات عن مخفيين كثر من أبناء الجنوب واليمن عموماً، وقعوا في أوقات سابقة بيد الأجهزة الأمنية في عدن أبرزها جهاز مكافحة الإرهاب الذي يديره المقدم يسران المقطري ويشرف عليه اللواء شلال شائع، وجهات أخرى، ونتج عن ذلك تشكيل رابطة المخفيين قسراً في عدن، والتي تنادي منذ بضع سنوات بالكشف عن مصير المعتقلين الذين يتجاوز عددهم المئات، وبرز مؤخراً اسم نائف القهبي اليافعي، والتي أكدت المعلومات أنه اختطف في العام 2016 من قبل الجهاز المذكور سيئ الصيت، ويتذكر أحد زملائه الذي كان معه في سجن قاعة وضاح بالتواهي أنه تمت تصفيته، لكن أسرته ترفض هذه الرواية وتطالب حالياً بالكشف عن مصيره مثلها مثل المئات من أسر المخفين قسراً في عدن.

قضية عشال الجعدني كما يبدو كانت عاملاً حاسماً في كشف ملفات الإخفاء القسري في عدن والمدن المحررة، وأثراً مهماً في انتقال حركة الناس من وسائل التواصل الاجتماعي أو ما يعرف بالعالم الافتراضي إلى الشارع، ومن حالة المطالب الخافتة والمرتعشة، كما كان الحال في السنوات الفائتة، إلى حالة الأصوات المرتفعة التي بدت وكما لو كانت تستدعي الزخم الشعبي من أيام الحراك السلمي، غير آبهة بالقبضة الأمنية والتهديدات وسفك الدماء، كما صور لنا ذلك المشهد يوم السبت في عدن.

لم يكن المجلس الانتقالي - الحاكم الفعلي للعاصمة عدن - بحاجة للسقوط في فخ الكماشة التي يريدها خصومه وأعداؤه له، ولكن كما يبدو التقديرات السيئة والمرتبكة في التعامل مع جريمة اختطاف عشال قد أماطت اللثام عن حالة من الخواء وانعدام المسؤولية في التصدي لفعل كهذا، وجد نفسه متورطاً فيه بقصد أو بدونه، كان بإمكانه اتخاذ عدد من التدابير الأمنية الطبيعية والمهنية في التعامل مع القضية في حينها قبل أن يفلت الجناة ويلوذون بالفرار إلى وجهات مختلفة، وذلك حتى يضع حداً لتحول قضية القتل والإخفاء القسري إلى ثورة عارمة لم يعد هناك أي فعل ينفع لمواجهتها، لاسيما في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والخدمية المتدهورة، والتي تجعل الناس يكفرون بكل شيء بما فيها السلطة القائمة في جولد مور والمعاشيق.

ومن قراءة لأمزجة الناس، فإنه يمكن القول إنهم ليسوا ضد المجلس الانتقالي كمكون يعتبر مكسباً كبيراً للجنوب والقضية الجنوبية، ولكنهم بالتأكيد ضد السلوك السيئ والفوضوي لبعض قياداته والمحسوبين عليه، من أشخاص وأجهزة أمنية وعسكرية، لم تنفع كل دعوات وحركات ومطالب التصحيح في تحريك المياه الراكدة والآسنة في داخلها لتجنب ما يمكن أن يقال عنه فيما بعد اتساع حالة الغضب، لتصبح المواجهة الشعبية مع المجلس برمته.

وفي أحسن الأحوال ما تزال الفرصة متوفرة أمام المجلس للتحرك الحقيقي باتجاه الكشف عن مصير عشال والمخفيين قسراً، أو القبض على الجناة الحقيقيين وتقديمهم إلى محاكمة عادلة في عدن أمام الرأي العام، ومن ثم إغلاق الملف نهائياً، وتجنب أي مصير سيئ تقود إليه حالة الإخفاق والرهانات الخاسرة والشحن المناطقي، قد تكون مسرحه عدن التي عانت مراراً وتكراراً من تلك الأفعال الصبيانية التي أضاعت أحلام الناس في دولة العدالة والأمن والكرامة.

حضرموت على صفيح ساخن

تعيش حضرموت - كبرى المحافظات في شرق اليمن - حالياً على وقع تحركات شعبية وقبلية تقودها مكونات مختلفة أبرزها حلف قبائل حضرموت ومؤتمر حضرموت الجامع، حيث شهدت مدن مختلفة في المحافظة النفطية الأكبر في البلاد لقاءات وفعاليات مكثفة خلال الأيام الماضية، صدرت عنها عدد من البيانات كان أبرزها بيان حلف قبائل حضرموت بقيادة عمرو بن حبريش العليي، الذي طالب مجلس القيادة الرئاسي بسرعة اعتماد مطالب حضرموت في الشراكة السياسية ومنحها نصيبها من الثروة المستخرجة من باطنها، فضلاً عن تخصيص عائدات 2 مليون برميل نفط تتواجد حالياً في خزانات ميناء الضبة بالشحر لشراء محطة كهرباء لحضرموت، التي تعاني كغيرها من المدن والمحافظات الساحلية من تردي خدمة الطاقة.

حلف حضرموت هدد في حالة لم يستجب المجلس الرئاسي والحكومة لمطالبه بوضع يده على الأرض والثروة، ومنع إعادة تصدير النفط من حقول وآبار المحافظة. ويبدو أنه تم اتخاذ هذه الخطوة خلال اليومين الماضيين وإن بصورة تدريجية مع ترك باب الحوار مفتوحاً مع السلطات الحاكمة. ويأتي ذلك في أثناء زيارة رئيس المجلس الرئاسي الدكتور رشاد العليمي لحضرموت، والتي انتهت أمس بحسب المعلومات، واعتبرها عدد من المكونات الحضرمية محاولة لإقناع السلطات والشخصيات الاجتماعية والسياسية في حضرموت القبول بما سيسفر عنه اتفاق التسوية السياسية بين الحوثيين والسعودية، والذي سيكون الملف الاقتصادي محوراً رئيسيا فيه، حيث من المتوقع أن يتم منح الحوثيين نصيباً من الثروة النفطية، إذ يطالب الحوثيون بالنصيب الأكبر متحججين بعدد السكان في مناطق سيطرتهم في الشمال، وهو الأمر الذي قد تحرم فيه حضرموت حتى من نصيبها الذي منحها إياها الرئيس هادي حينما كانت عائدات النفط جميعها تورد لصالح السلطة الشرعية، وبالتالي يحرم سكان أكبر محافظة منتجة للنفط في البلاد من ريع ثروتهم المنهوبة سابقاً ولاحقاً.

تؤكد المعلومات أن الأوضاع في حضرموت قد تتدهور في ظل إحجام المجلس الرئاسي عن تقديم البدائل والحلول المرضية والطبيعية، وفي ظل توجهات خفية وغير معلنة للمجلس الانتقالي ترفض من الأساس المساس بنفط الجنوب، ناهيك عن منح النصيب الأكبر منه للحوثيين. وإذا كان الانتقالي يحجم إلى الآن عن التصريح الرسمي بذلك، إلا أن هناك من يوجه له أصابع الاتهام بالوقوف خلف التحركات الأخيرة في حضرموت، أو على الأقل المشاركة فيها ودعمها، قياساً لما رأيناه من رفض شعبي لزيارة العليمي ووفده إلى المكلا، عبر عنه محتجون في الشوارع يعتقد البعض أن الانتقالي محركه الرئيسي، علماً بأن ملف النفط هو الدافع الموضوعي لزيارة الدكتور العليمي لعاصمة حضرموت.

من اللافت أن اللاعبين كثر في المشهد الحضرمي، وهناك ما هو ظاهر وهناك ما هو خفي، لاعبون محليون يؤدون دور الوكيل أو الممثل لما هو إقليمي ودولي، في ظل ملمح صعب ومعقد، ومشهد متداخل يستثمر فيه جميع اللاعبون لصالحهم الخاص، بينما يعتبر المواطن الحضرمي هو الخاسر الأكبر، إذ تعيش الناس أوضاعاً صعبة ومعقدة على امتداد المحافظة الأكبر يمنياً في المساحة والثروة، ويظلون دائما حبيسي هواجسهم المعتادة من أن تنحرف التحركات والمطالب الشعبية باتجاه لا يلمسون منه شيئاً إلا مزيداً من الفقر والمعاناة، فيما يستثمر الرموز والمكونات كل هذا السخط لتحقيق مكاسب نفعية كما هو الحال على الأقل منذ الهبة الحضرمية إثر اغتيال المقدم بن حبريش قبل نحو عقد ونيف وحتى اليوم.

يحتاج الوضع في حضرموت لمعالجات سريعة انطلاقا من خصوصية حضرموت أولاً، ومن مطالب أبنائها وتطلعاتهم السياسية المعروفة، ناهيك عن مخاطر الاستثمار الطامح في المشهد من قبل قوى خارجية تتطلع إلى أن تأخذ حضرموت بعيداً عن أجندة التسوية اليمنية القادمة، وهذا أمر لم يعد بخافٍ على أحد، فرهان بعض القوى الخارجية في تفتيت البلاد واقتطاع أجزاء منها ما يزال قائماً لم يتبدل.

ماذا يريد الحوثيون؟

يعمل الحوثيون بدأب في تعويض خساراتهم المحلية على الصعيد الشعبي الداخلي، بالبحث عن انتصارات خارجية عبر مواجهة إسرائيل وأميركا تحت مظلة الحرب على غزة وفلسطين. إنهم ينجحون فعلا في جعل الجمهور المحلي منجذباً إليهم مستغلين عاطفته العروبية والقومية والإسلامية حتى وهو في أسوأ الأحوال، يعاني من قطع المرتبات وأوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة للغاية في مناطق سيطرة الجماعة شمالاً.

حرب الحوثيين في البحر الأحمر وخليج عدن، وإطلاق الطائرات المسيرة والمقذوفات على إسرائيل والرد عليه من قبل العدو أكسبتهم أيضاً حضوراً كبيراً في أوساط الرأي العام العربي والإسلامي، وربما الخارجي والإنساني، إذ أصبح الإعلام يتحدث عن ما تفعله الجماعة باعتباره معجزات وخوارق في مواجهة أعتى القوى العالمية والدولية.

وفي الوقت الذي تخسر فيه الشرعية داخلياً وخارجياً، يواصل الحوثي جماحه الكبير مستعرضاً القوة لفرض خياراته على الجميع، بما فيه التحالف العربي الذي كان عدواً بالأمس وأصبح اليوم صديقاً خائفاً تحت وقع الصواريخ المجنحة والطائرات المسيرة، مستعداً للتنازل عن أوراق كثيرة بيده وممارساً الضغط على الشرعية ومكوناتها للقبول بمطالب الحوثي تفاديا لتنفيذ تهديدات السيد، وكان أبرزها ما حدث في قضية قرارات البنك المركزي، فضلاً عن ما يجري حالياً من هندسة تسوية سياسية تشير كل المؤشرات إلى أنها تصب في مصلحة الحوثيين سياسياً واقتصادياً وإنسانياً، يتم استبعاد الشرعية والانتقالي منها واستخدامهما فقط كأدوات للقبول بها وتنفيذها، في ظل غياب أية ضمانات حقيقية بإمكانها التأكيد أننا ذاهبون لدولة يمنية جديدة اتحادية أو غيرها تمثل حلاً شاملاً لكل قضايا اليمن السياسية بما فيها القضية الجنوبية العادلة، وبناء دولة العدالة والشراكة والمساواة والكرامة والحرية، التي قدم اليمنيون من أجلها قوافل من الشهداء والجرحى والمعتقلين.

الحرب سوف تنتهي في يوم ما لأن حاجة الجميع داخلياً وخارجياً للسلام في اليمن يعد أمراً مهماً للغاية بالنظر إلى موقع البلد وأهميته في الخارطة الجيوسياسية بالنسبة للاقليم والعالم، ولم يعد هناك عاقل يمتلك عقله يقبل بأن تستمر اليمن بؤرة صراع داخلي له انعكاسات خارجية خطيرة أو صراع خارجي، سوف يؤدي انخراط اليمن بشكل أكبر فيه إلى تفجير حرب كبيرة في المنطقة، لا يمكن التكهن بها وبمآلاتها على الأمن في الشرق الأوسط، لكنها ستكون مؤثرة ومدمرة، خصوصاً في ظل تطلع قوى كبيرة عالمية في تأمين السلاح لجماعة الحوثي أو غيرها ضمن أجندتها في استمرار الحرب لإرباك حسابات أميركا وإضعاف نفوذها في المنطقة.

الحاصل أيضاً أن جميع المتصارعين ينطلقون من خلفيات دينية وأطماع سياسية في المنطقة، إذ لا يخفى البعد الديني في حرب إسرائيل على غزة وفلسطين حالياً تحديداً، ولا يمكن إغفال البعد الديني في دعم أميركا والغرب لإسرائيل في هذه المعركة. في المقابل فإن حركات المقاومة العربية كحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين أو حزب الله في لبنان أو الحوثيين في اليمن، لهم أيضاً خلفياتهم ومحفزاتهم الدينية وأيضاً الوطنية والقومية، ولكن حضور البعد الديني لهذه الجماعات يبدو حاضراً بقوة من منطلق زمان ومكان الحرب الحالية التي وردت فيها أحاديث نبوية، وأيضاً تنبؤات دينية قديمة وحديثة، تعتبر هذه الحرب هي الأخيرة مع إسرائيل والفاصلة، وباعتبارها من علامات آخر الزمان التي تشير إلى هزيمة إسرائيل في هذه المعركة وانتصار العرب والمسلمين.

هذا أيضاً ينسحب على الحرب في البحر الأحمر وخليج عدن. وأتصور أن الحوثيين يستندون في ذلك لحديث الرسول الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ولتنبؤات أخرى معلومة، جلها تشير إلى حدوث حرب السفن والتجارة في البحر الأحمر وخليج عدن ضد قوى الاستكبار العالمي بقيادة أميركا وبريطانيا، وبالتالي فإن حدوث هذه الحرب هي إحدى مؤشرات وعلامات آخر الزمان، والتي سبقتها علامات تحققت وأحداث وعلامات سوف تأتي تباعاً، كلها تؤكد على أفول دور أميركا على المسرح العالمي وهزيمة إسرائيل وإضعافها، يلي ذلك ظهور النظام العالمي الجديد الذي يتحدث عنه الجميع كمحصلة لهذا الصراع الكوني المستمر، سيكون للمسلمين حضور مؤثر فيه، إلى جانب القوى العالمية الصاعدة كروسيا والصين وحلفاؤهم.

وينبغي الإشارة هنا إلى أهمية أن يدرك الحوثيون مدى مسؤوليتهم الكاملة تجاه الناس في مناطق سيطرتهم، فالاستمرار في تجويعهم وإذلالهم وقتلهم أمر غير راجح وغير مستحب، وربما يضعف أو يحبط تطلعات الجماعة ويجعل من هذه الممارسات ثغرات خطيرة قد ينفذ منها خصومها يوما ما لإلحاق هزيمة بها عبر ثورة شعبية أو غيرها، فالرهان على الحلول الأمنية والعسكرية في استمرار تركيع الناس وسلب حقوقهم قد لا يكون مجدياً في أي حال من الأحوال.

في اليمن على الجماعة أن تدرك أنها لو ظلت لاعباً في المشهد وقطباً في التسوية القادمة، فإنه لا يمكنها الهيمنة على اليمن كله بمشروعها الحالي أو غيره، من يدري قد تحدث تحولات قادمة انطلاقاً من مبشرات وتنبؤات قديمة متجددة بتخليق وضع سياسي جديد في اليمن، قائم على الشراكة والعدالة والمواطنة بمرجعية الإسلام المعتدل والحق، بعيداً عن المذاهب والطوائف والبدع والخرافات.

ضوء في نهاية النفق

صحيح أن اليمن اليوم أصبحت في نفق مظلم أوقعته فيه مغامرات نخب سياسية محلية وأجندات إقليمية ودولية مدمرة، لكن هذا لا يعني أننا سنظل عالقين في النفق إلى ما لا نهاية، هناك بصيص ضوء في نهاية النفق علينا استثماره بكل السبل والوسائل الوطنية والإنسانية، ليصبح هذا البصيص الضوئي الذي قد لا يراه آخرون هو السراج المنير الذي يبدد ظلمة النفق ويشع في اليمن كله. علينا استثمار اللحظة الراهنة والتقاط الفرص والأدوات الصالحة للبناء والعمل الوطني الحقيقي، وتوظيفها لتحقيق أحلامنا الجميلة في عودة الأرض الطيبة، والتي خصها بهذا الوصف من فوق سبع سماوات الرب الغفور، وأنه على إعادتها كما كانت وأفضل من ذلك لقدير.