د. عبدالمنعم همت يكتب:

السودان بين التشكيك والإقصاء: هل يمكن الخروج من مأزق الصراعات الفكرية؟

في المشهد السياسي والثقافي السوداني تبدو ظاهرة التشكيك واغتيال الشخصية واحدة من أكبر العقبات التي تقف في طريق التقدم والتنمية الوطنية. هذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي نتاج طويل الأمد لعقود من الصراعات الداخلية والاصطفافات الأيديولوجية والتكتلات السياسية التي تعمق الفجوة بين مختلف مكونات المجتمع السوداني. هذا السياق المشحون بالتوترات يغذي شعورًا عامًا بالاستقطاب، ويجعل من الاختلاف الفكري أو السياسي ليس مجرد تباين في الآراء، بل معركة شرسة يحاول كل طرف فيها إقصاء الآخر.

في السودان أصبح من الطبيعي أن تجد الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية تتراشق بسهام التشكيك والتخوين. كلما ظهر صوت جديد أو تمايزت حركة معينة عن غيرها في الفكر أو التوجه، سرعان ما تجد نفسها عرضة للاتهام بالردة الفكرية أو الخيانة أو الجبن. في هذا المناخ المشبع بالتعصب والانغلاق تصبح الخلافات الفكرية غير مقبولة، ويُنظر إلى التنوع على أنه تهديد ينبغي التخلص منه، بدلاً من كونه مصدرًا للقوة والتطور.

هذا التعصب نتج عن تكتلات سياسية وثقافية ظلت لسنوات طويلة تقدس الانكفاء على الذات وترفض الانفتاح على الآخر. ما يحدث هو إقصاء ممنهج لكل من يختلف عن هذه التكتلات أو يطرح رؤى جديدة. النتيجة هي أن الساحة السياسية والثقافية في السودان أصبحت مسرحًا لحروب الإقصاء والتشكيك، بدلاً من أن تكون ساحة للتفاعل والتبادل الفكري الصحي. كلما حاول شخص أو جماعة التفكير خارج الصندوق أو تقديم رؤية مختلفة، سُرعان ما يُتهمون بالخيانة أو الفشل أو الجبن.

الوطن لا يمكن أن يُبنى على أسس فكرية جامدة ترفض الاعتراف بالآخر. إن السودان، كبلد غني بتنوعه الثقافي والفكري، يحتاج إلى مساحات واسعة للنقاش والتفاعل الفكري بين مختلف الأطراف، دون تخوين

هذه الديناميكية المتوترة ازدادت حدة بعد ثورة ديسمبر – كانون الأول، التي كانت في بدايتها أملًا في التحرر والتغيير الشامل. ولكن مع مرور الوقت بدأت الثورة في “أكل مكوناتها” كما يقال، حيث تحول الحوار حول مستقبل السودان إلى حرب مفتوحة للتخوين والتشكيك بين الأطراف المختلفة التي كانت في يوم ما متحدة تحت راية التغيير. هذا التحول جاء نتيجة لوجود بعض الأفراد والجماعات التي ترى نفسها محور الحقيقة ومالكة للمشروع الثوري الحقيقي، وتتعامل مع الآخرين وكأنهم خونة أو متراجعون عن المبادئ الأساسية للثورة.

هذه الأزمة الفكرية والسياسية أدت إلى تمزق المجتمع السوداني بشكل عميق. التنوع، الذي ينبغي أن يكون مصدرًا للقوة والإبداع، تحول إلى عامل للتفرقة والتشكيك. أصبح من المعتاد أن ترى اتهامات تتطاير بمجرد أن يختلف أحدهم في الرأي أو يطرح أفكارًا تتباين مع التيار السائد. هذه الحملات العدائية لا تستهدف فقط الأفراد، بل تؤثر بشكل مباشر على المجتمع ككل، حيث تعمق الانقسامات وتزيد من حالة الاستقطاب التي تهدد بانهيار الروابط الاجتماعية والسياسية.

في ظل هذا الوضع المعقد، فإن العديد من العقول السودانية وأصحاب الخبرات الواسعة اختاروا الابتعاد عن العمل العام، خشية أن يصبحوا ضحايا لحملات التشكيك والاتهامات التي تستعر ضد كل من يحاول إحداث تغيير حقيقي أو التفكير بطريقة مغايرة. هذه الظاهرة حرمت السودان من الاستفادة من خبرات هؤلاء الأشخاص الذين كانوا قادرين على المساهمة في بناء الوطن وتقديم حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه البلاد.

ما نحتاجه اليوم في السودان هو إعادة التفكير في طريقة تعاملنا مع الاختلاف والتنوع. التنوع الفكري والسياسي والثقافي ليس تهديدًا، بل هو مصدر قوة يمكننا من خلاله بناء مجتمع أكثر شمولية وعدالة. نحن بحاجة إلى نبذ العصبيات الفكرية والأيديولوجية التي تجعل السودان منقسمًا اجتماعيّا وثقافيّا. يجب أن نفهم أن الوطن للجميع، وأن الحق في التعبير عن الرأي والمشاركة في الحياة العامة هو حق أساسي لا ينبغي لأي جماعة أو فرد أن ينكره على الآخرين.

هنا تظهر ضرورة الإشارة إلى أن الأيديولوجيات، وعلى رأسها الإسلام السياسي، تعد من أبرز العوامل التي تساهم في تأجيج هذه الظاهرة. الإسلام السياسي يمثل نموذجًا واضحًا للأيديولوجيات الإقصائية التي تعتمد على تفسير متشدد للنصوص الدينية. هذه الجماعات ترى في نفسها حاملة لمشروع إسلامي يمثل الحقيقة المطلقة، ومن هذا المنطلق تتعامل مع الآخرين الذين يختلفون معها على أنهم أعداء للدين أو للمشروع الإسلامي. هذا النهج أدى إلى تعزيز الفجوات المجتمعية والسياسية في السودان، حيث أصبح الحوار بين مختلف التيارات مستحيلًا تقريبًا، وتحوّل المشهد السياسي إلى معركة بين من يُعتبر “مع الإسلام” ومن يُعتبر “ضده”، بغض النظر عن التوجهات الوطنية والمصالح العامة.

في السودان أصبح من الطبيعي أن تجد الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية تتراشق بسهام التشكيك والتخوين. كلما ظهر صوت جديد أو تمايزت حركة معينة عن غيرها سرعان ما تجد نفسها عرضة للاتهام بالردة

إقصاء الآخر المختلف يؤدي إلى آثار سلبية كبيرة على المجتمع. أولاً، يساهم في خلق بيئة سياسية متوترة ومشحونة بالكراهية والتخوين، ما يجعل التعايش السلمي مستحيلاً. ثانيًا، هذا الإقصاء يؤدي إلى تهميش العقول والطاقات التي يمكن أن تساهم في تطوير البلاد، لأن كل من يختلف يُهمش أو يُستبعد من الساحة العامة. ثالثًا، الأيديولوجيات المتطرفة تفرض رقابة صارمة على الفكر وتحارب أي محاولة لتقديم بدائل فكرية أو رؤى جديدة، ما يجعل التجديد والابتكار الفكري مستحيليْن في ظل هذه الظروف.

ولتجاوز هذه الأزمة يجب أن نعمل على تجاوز الأيديولوجيات الإقصائية، خصوصًا الإسلام السياسي، من خلال تعزيز قيم الحوار والاحترام المتبادل. الوطن لا يمكن أن يُبنى على أسس فكرية جامدة ترفض الاعتراف بالآخر. إن السودان، كبلد غني بتنوعه الثقافي والفكري، يحتاج إلى مساحات واسعة للنقاش والتفاعل الفكري بين مختلف الأطراف، دون تخوين أو تشكيك.

لتأسيس سودان جديد يقوم على أسس الديمقراطية والعدالة يجب أن ننبذ كل أشكال الإقصاء والعصبيات الفكرية. لا يمكن للمجتمع السوداني أن ينهض ما لم نتعلم كيفية تقاسم الوطن بوعي واحترام. علينا أن ندرك أن قوة السودان تكمن في تنوعه، وأن الاختلاف في الرأي ليس تهديدًا للوحدة، بل يمكن أن يكون وسيلة لتعزيزها إذا تم التعامل معه بطريقة ناضجة ومسؤولة.

ختامًا، يجب أن نفهم أن المستقبل يكمن في قدرتنا على التعايش والتفاعل مع بعضنا البعض، بعيدًا عن هيمنة الأيديولوجيات التي تسعى إلى السيطرة والإقصاء. إذا كنا نرغب في بناء وطن يتسع للجميع، فعلينا أن نتحلى بالشجاعة لتجاوز هذه العصبيات والاعتماد على الحوار والتسامح كسبيل وحيد لتحقيق السلام والتنمية.