أمين اليافعي يكتب:
لبنان.. حكاية وطن عالق في صندوق الأزمات
أصواتٌ لبنانيةٌ (وطنيةٌ) قليلةٌ كانت تصرخ منذ سنوات محاولة التنبيه وإيقاظ الوعي اللبناني بضرورة اجتراح مسار وطني مُغاير علّه يقطع الطريق الواسع أمام المهالك المتدافعة، فيساعده -قبل فوات الأوان- على الخروج من المعادلة القاتلة التي وضعته فيها إيران، وكانت أشبه بمصيدة دمار مُحكمة. لكن لبنان الذي كانت كل مفاصل مشروعه الوطني تُدَك، وبضراوة، لجأ الناس فيه خلال السنوات الأخيرة إلى الإدمان على الاستعانة بالأغاني والأشعار الرومانسية الزاهية كملاذ متداع لأمل مُتوهمٍ في أعماق ظلماتٍ بعضها فوق بعض، وللهروب من بشاعة الواقع الذي يزداد رُعبًا كل يوم، وعلى مرأى ومسمع من الجميع.
منذ عقد تقريبًا كتب الشاعر اللبناني المعروف أنسي الحاج مقالاً عن بلده الذي “لا يُصلحِه أحد”، لا قادته المحليون، ولا التدخلات الخارجية، ولا تلك “المسودات القبلية” التي فرضتها ظروفٌ قاهرةٌ لاختراع فضاء للتعايش السلمي/الحضاري، بعيد المنال. لكن الحاج الذي كان يكتب لصحيفة وظّفت كل جهودها في خدمة ما يُسمى بـ“محور المقاومة”، حاول أن يجد تخريجات (عبقرية) لتبرير حال البلد الذي لم يعد بوسع أحد أن يصلحه على حد تعبيره. وفي سياق اجتهاده العظيم في سبيل ابتكار التبريرات، ذهبت به نشوة التنظير إلى الجزم بوجود تناقض كلي بين فكرة الدولة والطبيعة الفوضوية للفرد اللبناني وللخصوصية اللبنانية، ففكرة الدولة لا تعدو أن تكون مجرد “لفظة بلا مضمون، ومضمونها غائم يرمز إلى مستحيل يُراد له أن يظلّ مستحيلاً”، وأفضل تجلياتها/نسخها هي أن تظل “وسيطًا مسالمًا بين مصالح القبائل”. ومع أنه انتقد خطابات الهذيان السياسي والإعلامي عن “لبنان الغد”، وهو محقٌ في ذلك، فقد تحاشى تمامًا الإشارة بوضوح إلى الغول الذي كان يبتلع الكيان اللبناني بشراهة، ويهضمه على مهل. بل إن هذا الخطاب، الذي يُشيع نبرة عالية من التثبيط في وجهة أي مبادرة لمقاومة الوضع القائم بتصويره وكأنه قدر محتوم وبالتأكيد على استحالة تَحقُق أي نموذج حقيقي للدولة في لبنان، قد سهّل المهمة تمامًا!
السياسيون اللبنانيون يجدون أنفسهم بلا حول ولا قوة، غير قادرين على حماية مواطنيهم أو اجتراح أي مسار آمن، وباتت مؤسسات دولتهم الرسمية هي “الطرف المُسالم” الوحيد وسط كل هذا العنف والدمار
قبل سنوات عديدة من ذلك كتب محمود درويش هو الآخر في “ذاكرة للنسيان” عن استعصاء الحالة اللبنانية على الفهم؛ واقع مفكَّك ووعي مُفكِّك: “لا أحد يفهم لبنان، لا أصحابه المجازيون، ولا صُناعه، لا مُدمروه ولا بُناته، لا حلفاؤه ولا أصدقاؤه، لا الداخلون ولا الخارجون”. كانت الحالة اللبنانية مُعقدة للغاية، وإزاء هذه الحالة فضّل كثيرون -من اللبنانيين والعرب- عدم توريط أنفسهم بالاقتراب منها والتعامل معها بالقدر المطلوب، والاحتماء عوضًا عن ذلك بواحدة من متاهتي الإحباط لرفع الحرج: “لبنان اللغز المستحيل فهمه” و”لبنان الذي ليس بالمستطاع إصلاحه”.
وحدهم الإيرانيون وجدوا في لبنان حالة مثالية؛ فهذا البلد الذي تمت فيه مأسسة الطائفية السياسية تم فيه القضاء على الفضاء المدني الذي يسمح بنمو “كتلة الشعب” المرتبطة بالدولة الجامعة والمقاومة لأي اختراقات ذات طبيعة لاوطنية. وهكذا وجد لبنان نفسه عبارة عن كُتل طائفية ذات بُنية سياسية هشة، تُجاور بعضها، وتقودها نُخب علمانية/مدنية، كانت الغلبة ستؤول في نهاية المطاف وفي سياقٍ كهذا، وبلا ريب، إلى الكتلة الأكثر طائفية والأمتن أيديولوجيّا (وكانت واحدة من أكثر الأخطاء كارثية في تاريخ لبنان استثناء حزب الله من قرار حل الميليشيات المسلحة وسحب سلاحها عام 1991).
في ظل هذا الوضع أعاد الإيرانيون تشكيل البلد خيطًا خيطًا، وبدأب، وعلى طريقة نسج سجَّادهم، فتحولت “سويسرا الشرق” في غضون سنواتٍ قليلةٍ إلى معملٍ كبير للمشروع الإيراني لصناعة نموذج (طائفي) تستطيع من خلاله تصدير أفكار ثورتها وتعميم أيديولوجيتها تحت عباءة “المواجهة الكبرى”، ولإظهار مصداقية ما لشعاراتها الداعية إلى الموت، وهي شعارات ذات كُلفة عالية جدًا كان على الدول العربية أن تدفعها، لتتفرغ هي للتفاوض مع “الشياطين” حول حصتها من المصالح، ومدى إمكانية توسيع طموحاتها.
واليوم يجد السياسيون اللبنانيون أنفسهم بلا حول ولا قوة، غير قادرين على حماية مواطنيهم أو اجتراح أي مسار آمن، وباتت مؤسسات دولتهم الرسمية هي “الطرف المُسالم” الوحيد وسط كل هذا العنف والدمار. لم يستطيعوا كبح جماح جنون حزب الله مع علمهم الأكيد بالنتائج الفادحة التي سيدفعونها باعتبارهم خط الدفاع الأول عن مشاريع الخراب الإيرانية (إلى درجة أن اللعنة وصلت إلى الحد الذي لا تكون فاعلية انفجارات الصواريخ والأسلحة التابعة لهذه الدولة وجماعاتها إلا وسط أحياء المدنيين حيث يتم تخزينها). وغير قادرين على الاستفادة من القرارات الدولية التي يبدو أن الأوان قد فاتها في ظل رؤية سائدة تدعم “الحق في الدفاع عن النفس”، لتجد فيه إسرائيل فرصة سانحة لتثبيت مفهومها للردع، في أعلى مستوياته وفي أبشع صوره!