د. عبدالخالق عبدالله يكتب:

الإمارات تراهن على الذكاء الاصطناعي

يتجه نموذج دولة الإمارات العربية المتحدة التنموي والمعرفي نحو مستقبله الرقمي، ونحو اقتصاد المعرفة، بأسرع من سرعة الضوء..

ويتحقق لدولة لإمارات هذا عبر استثمارات ضخمة، وقيادة طموحة، وشراكات عالمية يعتدُّ بها، وفريق عمل وطني متمكن من أفضل ما يقدمه الذكاء الاصطناعي، ومن أحدث ما وصلت إليه التقانة المتقدمة والدقيقة. وقد أدركت دولة الإمارات باكرًا قيمة الذكاء الاصطناعي، وأصبحت اليوم من أهم المنتجين والمصممين والمستخدمين له.

جاء ذلك واضحًا عندما أطلق محرك غوغل مؤخرًا أكبر مبادراته للذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط من دولة الإمارات. وتأكد ذلك أكثر عندما تجاوزت استثمارات الشركات التكنولوجية والرقمية 38 مليار دولار سنة 2024؛ لذا لم يكن مستغربًا صعود دولة الإمارات من الترتيب الثامن والعشرين إلى الترتيب العشرين عالميًّا في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي لسنة 2024. كما حققت دولة الإمارات إنجازًا عالميًّا كبيرًا بدخولها نادي العشر الكبرى بين أفضل دول العالم في تقرير التنافسية الرقمية العالمية للسنة نفسها.

وقد بدا هذا التوجه الإماراتي الحثيث نحو الذكاء الاصطناعي جليًّا خلال معرض جيتكس جلوبال 2024 الذي عُقد في المدة ما بين 14 و18 أكتوبر من هذا العام، بمشاركة 1800 شركة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، و1200 مستثمر عالمي في عالم الابتكار من 180 دولة، تُقدَّر قيمة محفظتهم الاستثمارية بنحو تريليون دولار أمريكي. وقد جاءت هذه الأرقام لتمثِّل الحضور العالمي التقني الأكبر في تاريخ معرض جيتكس المستمر منذ سنة 1971؛ إذ أصبح المعرض، خلال سنواته الأربع والأربعين، أكبر حدث عالمي للتكنولوجيا تستضيفه مدينة دبي سنويًّا.

ومن زار المعرض في دورته الرابعة والأربعين شهد عجب العجائب في دنيا التكنولوجيا، وجديد عالم الذكاء الاصطناعي، والتقدم السريع والمذهل في عالم الروبوت الذكي القادر على القيام بأي شيء، بل كل شيء؛ بحيث أصبح يزاحم الإنسان في تفكيره، ومنطقه، ومشاعره الإنسانية، وقدرته على تربية الأطفال بدلًا من المربية، أو حتى بدلًا من الأم التي أصبح بإمكانها الذهاب إلى العمل وهي مطمئنة إلى أن أطفالها بأيدٍ ناعمة، وأمينة، وفائقة الذكاء.

وقد حضرت المؤسسات الوطنية والشركات الإماراتية في معرض جيتكس في دورته الرابعة والأربعين بكثافة كي تعرض جديدها في عالم التقانة، تصميمًا وتصنيعًا واستخدامًا. كما قررت شركات إماراتية حكومية، وشبه حكومية، وناشئة، الدخول إلى اقتصاد المعرفة، وعصر الرقمنة بثقة من الباب الواسع، ومن دون تحفُّظ، بل بدعم رسمي بغيةَ أن تصبح هذه الشركات شريكة في السباق التقني الوطني، ومسهمة في بناء نموذج إماراتي تنموي يعتمد على البيانات البديلة لسلعة النفط.

وباتت دولة الإمارات أكثر دولة نفطية مستعدة لمرحلة ما بعد اقتصاد النفط؛ إذ تراجع إسهام النفط في الدخل القومي إلى أقل من 25% بحلول عام 2024، والنسبة في تراجع مستمر. وقد وضعت دولة الإمارات اليوم رهانها على اضطلاع التكنولوجيا بدور أكبر يبقيها في طليعة سباق التميز خلال الخمسين سنة المقبلة.

وقد أصبحت دولة الإمارات، في أقل من خمسين سنة، مركزًا ماليًّا مهمًّا ضمن أكبر 20 مركزًا ماليًّا عالميًّا. وخلال المدة نفسها عززت دولة الإمارات موقعها بصفتها مركزًا لوجستيًّا عالميًّا يربط قارات العالم الخمس. كما تحولت دولة الإمارات مركزًا عالميًّا للطيران المدني من خلال مطاراتها، وشركات طيرانها الوطنية التي تنافس كبرى شركات العالم ومطاراته. كما استطاعت دولة الإمارات أن تتحول وجهة سياحية عالمية يقصدها القاصي والداني؛ إذ تحتل دبي المركز الخامس عالميًّا ضمن ترتيب الوجهات السياحية الجاذبة. وإضافةً إلى ما تقدَّم رسَّخت دولة الإمارات سمعتها ومكانتها مركزًا إغاثيًّا عالميًّا عبر مدينة الخدمات الإنسانية، ونشاط جمعية الهلال الأحمر، الذي جاء ضمن أكثر عشر جمعيات إغاثية نشاطًا في العالم.

أمَّا اليوم، وفي غمرة الاستمرار على نهج الريادة؛ فثمَّة دفع وطني نحو تحويل دولة الإمارات مركزًا عالميًّا للابتكار والذكاء الاصطناعي، ومركزًا عالميًّا للشركات التقنية الناشئة، ومركزًا عالميًّا في مجال العملات الرقمية والتكنولوجيا المالية. ولذلك؛ فإن دولة الإمارات تسابق الزمن لبناء أول اقتصاد رقمي عربي من خلال أحدث بنية تحتية رقمية في العالم، واحتضان المواهب والعقول الوطنية والإقليمية والعالمية. وهذا هو جديد إمارات القرن الحادي والعشرين، وجديد طموحها الوطني المستقبلي.

وقد بدأت دولة الإمارات رحلتها نحو هذا الطموح الرقمي متسلحة بموارد بشرية ومالية لامحدودة. وخلال السنوات الأربع الأخيرة ارتفع عدد الشركات التكنولوجية الناشئة إلى 5600 شركة، كما ارتفع عدد شركات العملات الرقمية، التي اتخذت من دولة الإمارات مقرًّا عالميًّا لها ليصل إلى 550 شركة؛ إذ وَجدت جميعُ هذه الشركات الرائدة في الفضاء الرقمي بدولة الإمارات البيئةَ الحاضنة والمناسبة لبناء مركز عالمي للابتكار والتكنولوجيا والاقتصاد الجديد.

بيد أن الموارد البشرية والمالية وحدها لا تكفي، على الرغم من أهميتها؛ إذ لا بد أيضًا من القيادة الطموحة؛ فالموارد لا تَخلق القيادة، بل إن القيادة هي التي تخلق الموارد، وتُحسِن توظيفها. وهنا نجد أن دولة الإمارات محظوظة بوجود قيادة شابة أخذت على عاتقها السير نحو المستقبل، مدركةً مسبقًا فرص عالم الذكاء الاصطناعي ومخاطره؛ فقيادة دولة الإمارات الشابة مدعومة بطموح قادة كبار، تنسق عملها مع فريق وطني شاب يملك المهارات والمؤهلات التقنية، ويعمل على المستوى الاتحادي، كما على المستوى المحلي.

وعلاوة على القيادة الشابة والملهمة والموارد المالية والبشرية الخلاقة، يتطلب بناء مركز عالمي للتقانة والابتكار والذكاء الاصطناعي شراكات عالمية يُعتد بها. ويبدو أن دولة الإمارات قد اختارت الولايات المتحدة الأمريكية شريكًا استراتيجيًّا عالميًّا مفضلًا خلال المرحلة الأولى من تحولها مركزًا عالميًّا للابتكار؛ من دون أن تُوصد أبوابها أمام كل شريك عالمي يدفع في هذا الاتجاه؛ فالبحث عن شريك عالمي يُعتد به كان هدفًا من بين أهداف مركزية عدَّة لزيارة رئيس الدولة التاريخية والتأسيسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كان التكامل التكنولوجي بين دولة الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية على رأس جدول أعمال تلك الزيارة الرسمية خلال شهر سبتمبر من عام 2024.

المستقبل، خاصة مستقبل قطاع الفضاء، وقطاع الذكاء الاصطناعي، وقطاع الطاقة المتجددة، وقضايا التغير المناخي، كان عنوان تلك الزيارة الأولى للشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ هذا هو خيار دولة الإمارات الاستراتيجي، وهكذا يكون التفكير المستقبلي الكبير للخمسين سنة المقبلة؛ إذ تودُّ دولة الإمارات أن تكون حيث يكون العالم المتقدم، وتتموضع حيثما يكون الذكاء الاصطناعي؛ فهذا هو ما تُراهن عليه دولة الإمارات من الآن فصاعدًا.