اسعد عبدالله علي يكتب لـ(اليوم الثامن):
هلع دول الخليج وقضية الأمن القومي
بعد طوفان الاقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023 إلى إعادة تعريف الاعتبارات الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي بشكل جذري, فالحروب تغيرت قواعدها, ولم يعد النصر يتحقق بعدد الدبابات او الجنود, والتغير في طرق الحروب الجديدة كشفتها ايران في عملية معاقبتها للصهاينة, عبر الضربات الصاروخية والطائرات بدون طيار غير المسبوقة التي شنتها إيران على الكيان الصهيوني في مناسبتين، وهذه الضربات الايرانية بعثت برسالة واضحة إلى الدول الخليجي لتدرك حجم قوة إيران, على الرغم من التقارب الناجح نسبيًا بين إيران ودول الخليج, في أعقاب اتفاق المصالحة السعودية الإيرانية الذي توسطت فيه الصين في مارس 2023، إلا أن الهجوم الإيراني على الكيان الصهيوني أثار قلق دول الخليج.
على الرغم من أن طهران كشفت عن نطاق العملية لجيرانها الخليجيين قبل إطلاقها، إلا أن حجمها وطبيعتها أجبرا هذه الدول على إعادة تقييم أولوياتها الأمنية.
دول الخليج وعت حقيقة مفادها أن تأمين الحدود الإقليمية لأي دولة لم يعد كافياً, عندما يتعلق الأمر بالحماية ضد التهديدات المحتملة، في ظل مشهد أمني متطور. يتطلب الأمن القومي إجراءات إضافية. وأهمها حماية المجال الجوي والمناطق البحرية، والدخول في ترتيبات دفاعية عابرة للحدود الوطنية، والاستثمار في تكنولوجيا الطائرات بدون طيار والمراقبة.
فإن جولة أخرى من القتال بين إيران والكيان الصهيوني من شأنها أن تشكل تحديات كبيرة أمام مجلس التعاون الخليجي، خاصة إذا انجرفت واشنطن إلى الصراع, فأي موقف يتخذونه مع أمريكا قد يدخلهم الحرب, وتتحول بلدانهم ساحة للصراع, ولمواجهة هذه التحديات الأمنية المتطورة على حدودها وسيادتها، تواجه دول مجلس التعاون الخليجي مهمة صعبة, حيث يتعين عليهم أن يعملوا على إيجاد التوازن بين تقاربهم الدبلوماسي الأخير مع إيران، وجهودهم المستمرة لتطوير إطار أمني إقليمي فضفاض يشمل إسرائيل والولايات المتحدة، وانجذابهم السياسي والاقتصادي الجديد نحو الصين، بدرجة أقل روسيا.
دويلات الخليج تعيش عقدة الخوف منذ زمن تهديدات نظام صدام في الثمانينات والتسعينات, لذلك عملت على توثيق الصلة بأمريكا, والعمل على تأمين حدودها, واهتمت بالتسليح بنحو معين (طائرات ودبابات وبضع صواريخ), لكن القلق حاليا تزايد مما دفعها الى إعادة التفكير في استراتيجياتها الجيوسياسية، خاصة فيما يتعلق بحماية الحدود, في العودة إلى السنوات السابقة ايام حرب تحالف الخليج ضد الحوثيين في اليمن, حيث أدى فقدان الدعم الأمريكي للحرب التي تقودها السعودية في اليمن، إلى خلق تصور بتقلص المظلة الأمنية الأمريكية في المنطقة.
كانت السعودية والإمارات وقطر والبحرين جميعها تنظر إلى الولايات المتحدة منذ فترة طويلة باعتبارها ضامنًا أمنيًا رئيسيًا، ولكنهم الان أدركوا أنه يتعين عليهم التكيف مع الوضع الجديد.
فعندما شكلت السعودية تحالف مع الإمارات ضد الحوثيين, كان الرد الحوثي قويا وموجعا, حيث شن هجوماً بطائرة بدون طيار على مصنع بقيق لتكرير النفط في السعودية عام 2019, وقوبل الفعل الحوثي بصمت أمريكي غريب! ونفذت الحوثيين عملية مماثلة ضد شاحنات ناقلات النفط في أبو ظبي في عام 2022, وقد دفع النقص الملحوظ في الدعم الأمريكي للسعودية في أعقاب هجوم 2019، وبالإمارات بعد هجوم 2022 إلى إعادة التقييم, في اعتمادهم على الحلفاء الخارجيين للحصول على الضمانات الأمنية.
وقد أدى سحب الدعم الأمريكي, إلى الضغط على السعودية لتغيير نهجها تجاه الصراع والبحث عن حل تفاوضي.
منذ انطلاق طوفان الاقصى ومشاركة الحوثيين في الدعم العلني للمقاومين في غزة, والذعر والهلع ينتشر في السعودية والإمارات, خصوصا ان البلدين يعملان مع الصهاينة, حتى في الوقت الذي تقوم فيه الأخيرة بسحق قطاع غزة، شنت الحوثيون منذ أكتوبر من العام الماضي هجمات على عدة سفن تمر عبر البحر الأحمر, وقد جرت معظم هذه العمليات في مضيق باب المندب، البوابة البحرية الجنوبية لقناة السويس ونقطة عبور بحرية رئيسية.
وعلى الرغم من إصرار الحوثيين على أنها تستهدف السفن المرتبطة بالصهاينة، فضلاً عن السفن الحربية الأمريكية والبريطانية، فقد هاجمت الجماعة سفنًا أخرى، مما أثر على مصالح خمسة وستين دولة على الأقل.
وقد أجبر هذا السفن على تغيير مسارها والإبحار حول رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، مما أضاف ما يصل إلى أسبوعين إلى رحلتها, إن التعطيل المستمر والطويل الأمد للتدفق الحر للمواد الهيدروكربونية، التي تمر عبر البحر الأحمر، سيكون له تأثير شديد على أسواق الطاقة العالمية. وهذا بدوره سيضر باقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط والغاز, ونظرا لمشاركتهم المتزايدة في مشاريع الممر الاقتصادي الإقليمي العملاقة، والتي تستفيد منها كثيرا الشحن البحري، تحرص دول مجلس التعاون الخليجي على تأمين ممراتها المائية.
بمعنى ما أصبحت السعودية والإمارات تنظران إلى العمليات البحرية للحوثيين باعتبارها تهديدًا لمصالحهم و أمنهم أكثر من سيطرة الجماعة على جزء كبير من اليمن.
عززت المواجهة الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني الأهمية المتزايدة للحدود الجوية, أن الضربات الانتقامية الإيرانية لم تهدد بشكل مباشر على دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن الأخيرة كانت قلقة بشكل خاص بشأن استخدام طهران للمجال الجوي الأردني، خاصة وأن الأردن يشترك في الحدود مع السعودية, قد أصبح استخدام الطائرات بدون طيار سمة من سمات الحرب الحديثة بسبب تنوعها وفعاليتها وقدرتها على توفير مزايا تكتيكية.
انتشرت الطائرات بدون طيار التي تصنعها إيران وتركيا ودول أخرى في الصراعات الأخيرة أو المستمرة، بما في ذلك الهجوم الإسرائيلي على غزة والصراع الحدودي بين حزب الله والكيان الصهيوني, وحرب ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان, والحرب الأهلية الليبية، والصراع الروسي الأوكراني، تثبت نفس الشيء, وقد عزز ذلك الضربات الايرانية وحزب الله للكيان الصهيوني أهمية الطائرات بدون طيار والأنظمة المضادة للطائرات بدون طيار, في اعتبارات أمن الحدود في الشرق الأوسط.
لذلك موضوع الطائرات المسيرة, والقبة الحديدة, وصواريخ الردع عالية الدقة, من المواضيع الحساسة لدول الخليج حاليا لحماية حدودها الجوية.
أدت الأعمال العسكرية الاخيرة بين إيران والكيان الصهيوني إلى لفت الانتباه مرة أخرى، إلى قضية انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط, ورغم أن أياً من البلدين لم يعترف رسمياً بامتلاك أسلحة نووية، فمن المعتقد على نطاق واسع أن الصهاينة يمتلكون ترسانة نووية، في حين يقال إن إيران على بعد أسابيع فقط من القدرة على تطوير سلاح نووي.
وحذر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من أنه إذا قامت إيران بتجميع قنبلة نووية، فإن بلاده ستسعى أيضًا إلى الحصول على مثل هذه الأسلحة, إن ظهور سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط قد يكون كارثيا، مع ما يترتب على ذلك من عواقب أمنية عالمية واسعة النطاق وعواقب اقتصادية وخيمة, وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، فإن ذلك من شأنه أن يقوض بشكل خطير التحول الجاري بعيداً عن الاعتماد على الهيدروكربونات، نظراً لأن الموارد المخصصة لمبادرات التنمية المستدامة يمكن تحويلها إلى التكنولوجيا النووية، كما سيؤدي أيضاً إلى التراجع عن التقدم الأخير الذي تم إحرازه في الحد من التوترات مع إيران.
من الناحية النظرية فإن تعميق دول الخليج علاقاتها الأمنية مع الصهاينة وامريكا من شأنه أن يمنحهم إمكانية الوصول إلى مظلة أمنية إقليمية أوسع, للتعامل مع التهديد المتصور الذي تشكله إيران او اي عدو آخر, وكانت الإمارات والبحرين قد قامتا بالفعل بتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل اندلاع طوفان الاقصى، وليس سرا ان السعودية تتفاوض على اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة, مقابل اعتراف السعودية بالكيان الصهيوني.
ومع ذلك فإن التحالف المباشر مع الصهاينة من جانب دول مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يزيد من خطر استهدافها من قبل إيران والمقاومة الاسلامية في المنطقة.
وفي الواقع، من المثير للاهتمام أن دول الخليج امتنعت عن الانحياز إلى أحد الجانبين في المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني، وحثت بدلاً من ذلك على ضبط النفس المتبادل, وخشيتها من الطرفين.
والان الهدف الذي تسعى دول الخليج لتحقيقه, هو التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل مظلة حماية امنية من الدول الكبرى.
بدأت العديد من دول الخليج الاستثمار بشكل كبير في صناعاتها الدفاعية، غالبًا من خلال شراكات مع تكتلات دفاعية كبرى - مثل شركة تصنيع الطائرات بدون طيار في تركيا "بايكار" - لتعزيز قدراتها المحلية على تصنيع الأسلحة, وقد وقعت السعودية والإمارات وقطر صفقات لشراء طائرات بدون طيار تركية من طراز بيرقدار، والتي تشمل الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا, بالإضافة إلى ذلك وقعت شركة أنظمة الاتصالات والإلكترونيات المتقدمة السعودية اتفاقية مع مجموعة تكنولوجيا الإلكترونيات الصينية للتصميم المشترك وتصنيع الطائرات بدون طيار في المملكة.
ووقعت الإمارات اتفاقية مع الشركة الوطنية الصينية لاستيراد وتصدير تكنولوجيا الطيران لشراء أسطول من طائرات التدريب النفاثة المتقدمة من طراز L-15. علاوة على ذلك، قطر والإمارات اشترت طائرات مقاتلة فرنسية من طراز رافال، وتفيد التقارير أن السعودية تفكر في شراء طائراتها بنفسها.
تعد أنظمة مراقبة الحدود مجالًا آخر من مجالات التركيز لهذه البلدان, وستشهد الاتفاقية الأخيرة بين شركة آلات، وهي شركة تابعة لصندوق الاستثمارات العامة في السعودية، وشركة داهوا تكنولوجي الصينية، تصنيع أجهزة المراقبة في السعودية.
وبالمثل استثمرت الإمارات في الطائرات بدون طيار المصنعة محليًا ذات قدرات المراقبة، بينما تتعاون أيضًا مع الكيان الصهيوني لتطوير نظام متقدم يمكنه اعتراض الطائرات بدون طيار وغيرها من التهديدات الجوية.
لم يؤدي التصعيد الأخير بين جمهورية إيران الاسلامية والكيان الصهيوني إلى تفاقم المخاوف الأمنية في الخليج فحسب، بل أدى أيضًا إلى تسريع تطور مفهوم أمن الحدود الذي بدأ يتغير في عام 2019، عندما لاحظت دول الخليج الرد الأمريكي الباهت على الهجمات التي شنتها الحوثيين على الأراضي السعودية, بالإضافة إلى ذلك سلطت المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني الضوء على الترابط بين التهديدات الأمنية عبر الحدود, وكان استخدام إيران للمجال الجوي الأردني للانتقام من الكيان الصهيوني، جنباً إلى جنب مع قيام الحوثيين بتعطيل الملاحة في البحر الأحمر، سبباً في تعزيز إدراك مفاده أن أمن الحدود يمتد إلى ما هو أبعد من الحدود المادية، ويشمل المجال الجوي، والطرق البحرية، والفضاء السيبراني.
وبالنسبة للسعودية والإمارات وقطر، تسلط هذه التطورات الضوء على أهمية تنويع السياسات الخارجية والدفاعية, وتظل التحالفات التقليدية ذات قيمة، ولكن وحتى مع احتفاظ دول الخليج باتفاقيات أمنية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، فإن بعضها يتطلع إلى الصين من أجل ترتيبات أمنية جديدة, ويكمل هذا النهج التحرك نحو تعزيز آليات الدفاع بين دول الخليج, وفي الوقت نفسه تستثمر دول الخليج في الصناعات العسكرية المحلية، بما في ذلك أنظمة مراقبة الحدود، والطائرات بدون طيار، والأمن السيبراني.