نورالدين خبابه يكتب لـ(اليوم الثامن):

غزة: صناعة النصر في زمن الهزائم!

جفَّ القلم، وتلعثم اللّسان، ارتبكت النظرة ،شرد الذهن وتاه الفكر. عيناي تحاولان السّباحة وسط الأحلام، وأسناني تصطكّ من هول هدير الطائرات ودوي الصواريخ وانفجار القنابل، وفرار العصافير والطيور ونعيق الغربان ، وهدم المآذن ، ورعب الأطفال وآهات كبار السنّ.

تبعثرت الكلمات، وتجمَّدت المشاعر والأحاسيس. وها أنا ذا أحاول جمع شتات المفردات لأصوغ جملة قد تحمل بعضًا من صمودكم، وتُشير إلى الخذلان الذي واجهتموه وسط إعلام عربي غبي ينشر الخنوع ويتظاهر بالنهضة ويقتل المروءة ويخصي الفحول ويروج للدياثة ببيع الأوهام.

لعل كلماتي، رغم تواضعها ويتمها، تصل إليكم كنسمة عزاء وسط هذا الركام، فتشعرون أن هناك قلوبًا ما زالت تخفق بحبكم في الجزائر وفي العالم، وتُدركون أنكم خط الدفاع الأخير عن كرامة الأمة السجينة !

حين أكتب إليكم، يا أهل غزة، أشعر أن الكلمات فقيرة وخجولة. كيف أصف صمودكم بجمل عابرة؟ وكيف أُعطي تضحياتكم حقها في نصٍ مهما بلغ تعبيره وطالت كلماته سيظل قاصرًا ولا يصف الحقيقة فمن عاش ليس كمن سمع؟

أنتم، يا من صنعتم من الألم علاجًا وبلسمًا، ومن الدمار بناءً وعلوّا ودرسًا في الكبرياء والشموخ والعزيمة والإرادة ، ومن صمت العالم الأعور المرائي منصة لصوت الحرية، ومن خذلان الأنظمة والشعوب مدرسة في الاحتساب والثبات على المبدأ.

بين القصف والصمت العربي

في لحظةٍ من الغفلة كانت صواريخ الحقد والضغينة تمزق سماءكم الزرقاء وتحاول حجب الشمس الوضاءة في رابعة النهار لتدفن تاريخكم المجيد أمام مرأى العالم وتهدم مقدساتكم، اختفت أصوات كانت تدعي الدفاع عن الكرامة وحقوق الإنسان.

غابت الأنظمة والجيوش العربية التي أقسمت على نصرتكم يومًا في الخطب والمناسبات، وغرقت في الملذات والشهوات والاستعراضات، وتبذير الأموال، وأكل الصدأ الأسلحة وعشعشت اللقالق في الثكنات وتوارى الكثير منا خلف شاشاتهم وأجهزتهم، يراقبون المشهد وكأنه مسرحية أو فيلم سينمائي أو مسلسل مدبلج لا يعنيهم. وفئات انغمست في متابعة قصف اللاعبين عبر أهدافهم في ميادين اللعب والرقص على جراحكم في المواقع لكسب المشاهدات والإعجاب.

لكنكم كنتم تجابهون هناك بصدور عارية، تتحدون العجز وتنسجون من شظايا بيوتكم كلمات الحق المجلجل التي ستبقى محفورة في أعماق التاريخ.

لم تنتظروا الجيوش التي لم تصل بعد فهي مشغولة بالسهرات وتوزيع النياشين، ولا المؤتمرات التي لم تُعقد فالخدم مشغولون بتزين القاعات وتعطيرها للملوك والرؤساء والوشاة، بل واجهتم وحدكم آلة الدمار ، وجعلتم من أزقتكم الضيقة ساحات كرامة، ومن حجارتكم سلاحًا يحير أعتى الآلات الحربية.

دروس في الإنسانية

يا أهل غزة، لم تكونوا مجرد مقاومين، بل كنتم أساتذة في الآدمية. منكم تعلمنا أن الإنسان لا يُقاس بقصوره وبشهاداته وبأملاكه وصيامه وصلاته، بل بما يُقدمه من تضحيات للقضية. علّمتمونا أن القوة ليست في العدد، بل في العزيمة والإصرار و أن الحياة لا تُقاس بطولها أو بقصرها، بل بمعانيها لتجسيد الأهداف السامية.

في مستشفياتكم المتواضعة، التي تفتقر إلى أبسط المعدات، رأينا أعظم معاني الصبر والتضحية إلى درجة أن الصبر أصبح يحتاج إلى صبر. في مدارسكم التي تحولت إلى ملاجئ تعلمنا أبجديات العروبة والألف والباء في التربية، رأينا مستقبلًا لا يحيد في وجوه أطفالكم المغبرة، وجدنا الأمل الذي رفض أن يموت في عيون أبنائكم.

حقيقة المواقف

في الوقت الذي ملأت فيه العواصم شوارعها بأضواء الاحتفال، كانت غزة تغرق في الظلام. وفي حين انشغل البعض بالبحث عن متعة اللحظة، كنتم تبحثون عن بقعة أمان وسط الركام.

لكن دعونا نكون صادقين مع أنفسنا: ما حدث لم يكن مجرد خذلان، بل كان امتحانًا كشف زيف الكثير من الادعاءات. بعضنا نام قرير العين بينما كنتم تسهرون على أصوات الطائرات، وبعضنا كان يقتنص الفرص لينأى بنفسه عن مسؤولية الانتماء.

رسالة من القلب

لكنكم، رغم كل شيء، لم تتوقفوا عن العطاء. لم تُغلقوا أبواب الأمل. رفعتم راية الحق وسط العتمة، وأثبتّم أن الشعوب، لا الأنظمة، هي من تحفظ العزة.

نحن ندرك أن اعتذارنا لا يفيد، وأن كلماتنا لن تُعيد بناء ما هدم. لكننا نعدكم أنكم لستم وحدكم، وأن صبركم ليس مجرد قصة تُروى، بل هو شرارة تُحيي جذوة الإرادة في قلوبنا.

إلى العالم أجمع

يا أهل غزة، رسالتكم وصلت، ليس فقط إلينا، بل إلى العالم كله. العالم الذي حاول تجاهلكم، لم يستطع أن يُغلق عينيه عن صمودكم. قضيّتكم صارت مرآةً تكشف الوجه الحقيقي للإنسانية.

خاتمةٌ لا تنتهي

أنتم الذين علّمتمونا أن الشمس قد تحجبها غيوم الظلم، لكنها لا تموت. أنتم الذين ذكّرتمونا بأن الضمير قد يغفو، لكنه لا يموت في القلوب الحية.

ابقوا كما أنتم، صامدين كالأشجار التي لا تنحني للرياح. تذكروا أن منارات الحرية تضيء منكم، وأن صبركم أمانة في أعناق الأحرار.