حسام عبدالقادر يكتب لـ(اليوم الثامن):

حين تُجيب الكتب عن أسئلةٍ لم نسألها

جميع الناس تعرف أن ما من شيء في دين الإسلام جاء إلا لهدف وفائدة وثمار يانعة في تطبيقه؛ فمثلًا: توقيت الصلوات الخمس من الفجر حتى العشاء ما جاءت عبثًا ولا عشوائية وسمعنا من علماء الغرب قبل العرب من يقول باكتشاف إشعاعات تمتص الطاقة السلبية وقت صلاة المغرب ولا يتكرر بغير هذا التوقيت وكذلك فوائد القيام لصلاة الفجر الصحية التي ليس هذا المقال مجاله لنذكره. 

ومن هنا فإنَّ أول ما جاء من الله تعالى بواسطة جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي إلينا جميعًا هو الفعل(اقرأ) ثم (اقرأ) ثم (اقرأ)، نعم ثلاثًا وذلك ليفتح آذان قلوبنا نحو أهمية القراءة، وإن للعلم أركانًا كما للإسلام أركانٌ وللصلاة أركان، والقراءة أعظم أركان العلم وأهمها، فالقراءة بالنسبة للإنسان عمره وللسائل إجابته وللباحث مصدره وللبائس سعادته، وخير جليس في الزمان كتابُ.

وهذه قصتان حصلتا لي والقراءةَ، ففي فترة من فترات زماني كنت أبحث عن تفسيرٍ لظاهرة ظهور الشخص ماثلًا أمامك بعد أن تذكره سواءً في نفسك أو مع أحد آخر، وسألت كل من كنت أثق بهم وأراهم جهابذةً في العلوم الدينية فلم أجد إجابة وتساءلت مع بعض أساتذتي في النحو والصرف حين كنت في مرحلة البكالوريوس؛ وكذلك لا تفسير يُذكر حتى وجدتها ذات يوم في كتاب كنت أقرأه لا لغرض الإجابة عن تساؤلاتي بل قد نسيت أني أبحث عن تفسير لهذه الظاهرة، ففتحت كتاب أبي عبيد القاسم ابن سلام الموسوم "بالأمثال" وضمن قراءتي فيه وصلت إلى المثل القائل: "اذكر الغائب يقترب" و"اذكر الغائب تره" ونحن نقول: "اذكر الحي يلتفت"؛ ثم أعقب تفسيرًا للمثل إذ ذكر أنَّ هذا المثل يروى عن عبد الله بن الزبير إنّه ذكر المختار بن أبي عبيد يومًا، وسأل عنه والمختار يومئذ بمكة قبل أن يقدم العراق، فبينا هو في ذكره إذ طلع المختار، فقال ابن الزبير: اذكر غائبا تراه قال أبو عبيد: وهذا الذي جاء فيه الحديث إنّه من أشراط الساعة ولولا القراءة لما عرفت الإجابة، وأمّا القصة الثانية فإني تساءلت يومًا مع نفسي وسألت غيري ممن أراهم أهلًا للسؤال عن قول الله تعالى: ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾ ﴿ومِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ﴾ لماذا (يستمعون) بالجمع؟، و(ينظر) بالإفراد؟ فأجابتني القراءة إذ لم أقرأ لأجل السؤال ولكني وقعت على الإجابة تلقائيًّا في أثناء القراءة بعد أن وقع في يدي كتاب المزهر للسيوطي فذكر قصة الزجاج مع فصيح ثعلب وهي:

الزجاج يقول: دخلت على ثعلب في أيام المبرد وقد أملى شيئا من المُقْتَضَب فسلّمتُ عليه وعنده أبو موسى الحامِض وكان يَحْسُدني كثيرا ويُجَاهِرُني بالعدَاوة وكنتُ أَلِينُ له وأحْتَمِلُه لموضع الشَّيْخُوخَة.

فقال ثعلب: قد حَمل إليَّ بعضَ ما أَمْلاَهُ هذا الخلدي فرأيتُه لا يَطُوعُ لسانُه بعبارة فقلت له: إنه لا يَشُكُّ في حُسْن عِبارته اثنان ولكنَّ سوءَ رأيك فيه يَعيبُه عندك فقال ما رأيته إلا أَلْكَن متفلقا فقال أبو موسى: والله إن صاحبَكم ألكَنَ؛ يعني سيبويه فأحْفَظني ذلك. ثم قال: بلغني عن الفرَّاء أنه قال: دخلت البَصْرة فلقيتُ يونس وأصحابه يذكرونه بالحِفْظِ والدراية وحُسنِ الفِطْنة وأتيتُه فإذا هو لا يفصح. وسمعته يقول كجارته: هاتي ذِيكِ الماءَ من ذلكِ الجرَّة فخرجتُ عنه ولم أَعُد إليه. فقلت له: هذا لا يصحُّ عن الفراء وأنتَ غيرُ مأمون في هذه الحكاية ولا يعرفُ أصحاب سيبويه من هذا شيئا. وكيف يقول هذا مَنْ يقول في أول كتابه: هذا بابُ علم ما الكَلِم من العربية وهذا يعجِز عن إدراك فهمه كثيرة من الفُصَحاءِ فضلا عن النُّطق به.

فقال ثعلب: قد وجدتُ في كتابه نحو هذا.

قلت: ما هو؟ قال: يقول في كتابه في غير نُسْخَة: حاشا حرفٌ يخفِضُ ما بعدَه كما تَخْفِضُ حتى وفيها مَعْنى الاستثناء.

فقلتُ له: هذا هكذا وهو صحيح ذهب في التذكير إلى الحرْف وفي التأنيث إلى الكلمة.

قال: والأجود أن يُجْعلَ الكلام على وجْهٍ واحد.

قلت: كلٌّ جيد.

قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ورسولهِ ويَعْمَل صالحا﴾ وقرئ {وتعمل صالحا} وقال تعالى ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾ ذهب إلى المعنى ثم قال: ﴿ومِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ﴾ ذهب إلى اللفظ. 

وأخيرًا إنَّ العيبَ كلَّ العيبِ أن يدرك غيرُنا ممن هم ليسوا من أمتِنا أمةَ (اقرأ)؛ يدركون أهمية القراءة وثمرتها ويقبلون عليها بكل ما أوتوا وبجميع فئاتهم العمرية في حين نحن إمَّا أننا لا نعلم قدر القراءة وإمَّا أننا نعلمُ ولكننا لا نعمل، إن كنتَ لا تدري فتلكَ مُصيبةٌ أو كنتَ تَدري فالمصيبَة ُأعظَمُ.