إيهاب مادبو يكتب لـ(اليوم الثامن):
النفوذ المتجدد للسعودية في السودان يضع (جماعة الإخوان) في مواجهة المجتمع الدولي
يتّخذ العداء المستمر بين جماعة الإخوان المسلمين في السودان – المعروفة محليًا بـ“(جماعة الإخوان المعروفة بالكيزان)” – والسعودية شكلاً ثابتًا ظلّ يرافق مسار الحركة الإسلامية السودانية منذ ثلاثة عقود. وبينما تتغير الحكومات وتتناوب الأزمات على البلاد، يبقى موقف (جماعة الإخوان) من الرياض قائمًا على مزيج من التوجس العقائدي والحسابات السياسية، وهو موقف يتجدد اليوم مع اندلاع الحرب في السودان وتزايد دور السعودية في جهود الوساطة الإقليمية. ويقول محللون إن جذور هذا العداء تعود إلى طبيعة المشروع السياسي للحركة الإسلامية السودانية منذ نشأتها، وهو مشروع ظل يصطدم بالنموذج السياسي والثقافي الذي تمثله المملكة.
في بداية التسعينيات، وبعد استيلاء البشير على السلطة بدعم من الإسلاميين، تبنت الحركة ما عُرف بـ“المشروع الحضاري”، وهو نسخة سودانية من مشروع الإخوان المسلمين ذات طابع ثوري متشدد. ومع الغزو العراقي للكويت عام 1990، اتخذت الخرطوم موقفًا مخالفًا للإجماع العربي، واحتضنت شخصيات مرتبطة بالحركات الجهادية، بينها أسامة بن لادن الذي أقام في السودان لفترة. واعتُبر هذا الموقف نقطة تحول مبكرة في العلاقة مع السعودية، التي كانت في ذلك الوقت تقود التحالف الدولي لتحرير الكويت.
في منتصف التسعينيات، تطور الخلاف إلى مسار أكثر حساسية مع دخول السودان في علاقة استراتيجية مع إيران. ومع الوقت، تحولت هذه العلاقة إلى شراكة أمنية وصناعية واسعة، بدأت بإنشاء مراكز ثقافية وحسينيات، وتوسعت إلى إنشاء مجمع اليرموك للصناعات العسكرية جنوب الخرطوم، الذي مثّل لسنوات محور التعاون العسكري بين الخرطوم وطهران. وكان لهذا التحالف أثر مباشر على نظرة السعودية للنظام السوداني، إذ رأت الرياض في هذا التمدد الإيراني تهديدًا لأمن الخليج.
وعلى الرغم من أن السودان حاول في فترات لاحقة تحسين علاقاته مع السعودية، فإن تلك المحاولات لم تكن نابعة من مراجعات فكرية داخل الحركة الإسلامية، بل من حاجة النظام السوداني لتخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية. وعندما انضم البشير إلى “عاصفة الحزم” عام 2015، جاء القرار – بحسب دبلوماسيين – في سياق براغماتي خالص، هدفه فك الخناق الدولي الذي كان يشتد على الخرطوم.
بعد سقوط البشير في أبريل 2019، دخل السودان مرحلة انتقالية بدعم سياسي واقتصادي من السعودية والإمارات. غير أن هذا الدعم أثار حفيظة (جماعة الإخوان المعروفة بالكيزان) الذين رأوا في الدور السعودي تهديدًا لعودتهم إلى السلطة. ومع اشتداد الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع عام 2023، عاد خطاب الإسلاميين إلى استهداف السعودية، سواء عبر منصات إعلامية مرتبطة بهم أو عبر تصريحات قيادات الصف الأول. ويقول دبلوماسيون إن هذا الخطاب يحمل رؤية تعتبر أي مشروع سياسي مدعوم من الرياض مسارًا يهمّش الإسلاميين ويقوّض قدرتهم على التأثير داخل المؤسسة العسكرية.
وتشير تقارير دولية إلى أن (جماعة الإخوان) يشاركون في الحرب الحالية عبر ما لا يقل عن 17 مجموعة شبه عسكرية تقاتل إلى جانب الجيش. ويعتبر محللون أن وجود هذه المجموعات داخل المؤسسة العسكرية يمثل تحديًا كبيرًا لأي تسوية سياسية ترغب السعودية وواشنطن وأطراف إقليمية أخرى في الدفع بها. وفي الوقت نفسه، تُتَّهم الحركة الإسلامية بأنها لعبت دورًا في تعطيل جولات التفاوض في جدة والبحرين وجنيف، بهدف إطالة أمد الحرب واستنزاف خصومها.
الأحداث الأخيرة تعكس هذا التوجه بوضوح. ففي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب نيته دعم عملية سياسية لوقف الحرب، أصدرت الحركة الإسلامية بيانًا بدا في ظاهره مرحبًا بالجهود الدولية، لكنه حمل – بحسب محللين – إشارات مبطنة إلى استمرار رفضها لأي تسوية قد تُفقدها نفوذها. ويقول مسؤولون سودانيون إن البيان كان محاولة لامتصاص الضغوط الدولية دون تغيير فعلي في موقف الحركة.
في المقابل، صدرت تصريحات أكثر حدة من قيادات الصف الأول مثل الحاج آدم يوسف، نائب البشير السابق، الذي ظهر في تسجيل مصور يحذر الجيش من القبول بأي اتفاق، ويدعو أنصار التنظيم إلى المواصلة في الحرب. ويصف محللون هذا الخطاب بأنه يعكس موقفًا رافضًا للتسويات السياسية، وهو الموقف الذي ترى الرياض أنه يعرقل مسار السلام ويقوّض فرص إيقاف الحرب.
السعودية، التي تدعم جهود وقف إطلاق النار وتعمل مع الولايات المتحدة ودول الرباعية للضغط على الأطراف السودانية، أصبحت هدفًا مباشرًا لخطاب (جماعة الإخوان المعروفة بالكيزان)، ليس فقط بسبب دورها السياسي، بل بسبب تأثيرها الإقليمي المتزايد. ومنذ صعود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وتبني السعودية لرؤية إصلاحية واسعة، باتت المملكة تمثل نموذجًا سياسيًا واقتصاديًا يتعارض مع منظور الحركة الإسلامية حول تمكين المشروع الأيديولوجي. ويقول محللون إن هذا التباين يعكس خلافًا فكريًا عميقًا، لا يرتبط فقط بالمصالح السياسية الراهنة، بل بالبنية الفكرية الأساسية للحركة الإسلامية السودانية.
وتشير مصادر قريبة من الجيش السوداني إلى أن القيادة العسكرية تواجه صعوبات حقيقية في ضبط تأثير (جماعة الإخوان المعروفة بالكيزان) داخل وحدات القوات المسلحة. ويقول دبلوماسيون إن أطرافًا دولية، بينها السعودية والإمارات والولايات المتحدة ومصر، باتت تنظر إلى نفوذ الحركة الإسلامية داخل الجيش باعتباره أحد أكبر التحديات أمام أي عملية سلام. ويضيف هؤلاء أن الجيش يجد نفسه في وضع معقد، إذ يحتاج إلى دعم سياسي واقتصادي من شركائه الإقليميين، لكنه في الوقت نفسه يُواجه ضغوطًا من كوادر الحركة الإسلامية التي لعبت دورًا مهمًا في تشكيله خلال العقود الماضية.
وتظهر مخاوف المجتمع الدولي في تحذيرات متعددة من قدرة (جماعة الإخوان) على تخريب أي مسار سياسي. فقد سبق للحركة الإسلامية أن عملت على تعطيل مبادرة جدة 1 وجدة 2، إضافة إلى محادثات البحرين وجنيف. كما اتهمت تقارير دولية الحركة بأنها قادت حملات إعلامية مكثفة عبر منصات مرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين لاستهداف مبادرات الرباعية.
في الوقت ذاته، تشير القراءة السياسية لتعامل (جماعة الإخوان) مع السعودية إلى أن الحركة تعتمد استراتيجية مزدوجة: خطاب منخفض النبرة على المستوى الرسمي، يقابله تحريض واسع عبر قيادات التنظيم وقواعده النشطة على الأرض. ويقول محللون إن هذه الاستراتيجية تهدف إلى تفادي الصدام المباشر مع المجتمع الدولي، مع الإبقاء على قدرة الحركة على التأثير في مسار الحرب.
أن بيان علي كرتي الأخير، الذي بدا معتدلاً في شكله، كان جزءًا من هذه الثنائية؛ إذ ترك كرتي مهمة التصعيد لقادة الصف الثاني الذين كثفوا هجماتهم على السعودية خلال الأسابيع الماضية. ويقول خبراء إن هذا الأسلوب يعكس محاولة من الحركة للموازنة بين الخوف من العقوبات الدولية والرغبة في عرقلة أي تسوية سياسية قد تُضعف نفوذها داخل الجيش.
وفي ظل هذا المشهد، تبدو علاقة (جماعة الإخوان) بالسعودية جزءًا من معادلة أوسع تتقاطع فيها المصالح الإقليمية مع الصراع الداخلي في السودان. وبينما تستمر الرياض في الدفع نحو مسار سلام يضمن استقرار السودان، يتمسك (جماعة الإخوان) بمواقفهم الرافضة لأي اتفاق قد يحد من نفوذهم. ويقول محللون إن هذا الصراع سيظل عنصرًا رئيسيًا في معادلة الحرب والسلام، في بلد تمزقه الانقسامات السياسية والعسكرية، وتتنازع أطرافه على مستقبل الحكم والدولة.


