مرحلة دقيقة وحرجة من تاريخ الشعب العراقي..

"ربيع التنومة" سيرة مدينة عراقية منتفضة

رواية ربيع التنّومة

وكالات (لندن)

ربما تنفرد رواية «ربيع التنّومة» لقصيّ الشيخ عسكر، الصادرة عن «مؤسسة المثقف العربي» في سيدْني بمقاصصة الذهنيتين القامعة والمقموعة في آنٍ واحد، إذ ينهمك المؤلف بتفكيك طرَفَي المعادلة من دون التركيز على الضحيّة وإهمال الجلاد، كما يمكن اعتبار هذه الرواية أنموذجاً للأدب «السوداوي» الذي يفحص الشخصية العراقية ويضعها على مِحك الاختبار لدراسة عُقَدها النفسية والاجتماعية والثقافية أو تلك الإشكالات التي تنبثق من التاريخ والجغرافية مثل «عُقدة السندباد» الذي يركب المخاطر والأهوال من دولة تمتلك بالكاد منفذاً بحرياً صغيراً على الخليج العربي. لا تسلمْ الشخصيات الأخرى من العُقد النفسية وربما يكون عبد الله عبد الرحيم، الموظف في مديرية العدل هو الأنموذج المثالي الحامل لعُقدة النقص، فهو أعرج لكنه تنكّبَ بندقية خالية من الرصاص ونزل بها إلى شوارع «التنّومة» المنتفضة مثل بقية المدن الجنوبية التي ثارت عن بكرة أبيها على نظام صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية. ولعله أخذ بنصيحة المعلِّم كامل الرامي الذي يقول: «ليس بالضرورة أن يشعر كل ذي عاهة بعقدة، تيمورلنك الأعرج احتلّ العالم، وموشي ديان (دحر) 150 مليون عربي في ستة أيام حسوم» فليس من المستغرب أن يهزِم عبد الله الأعرج لواءً مدرّعاً بكامله لأنه استعمل كلمات حماسية بسيطة من قبيل «أيها اللواء البطل، لقد انهار الجلاد والثورة تشتعل» ليتوارى الجنود والضباط في لمح البصر.
تنطوي «ربيع التنّومة» على سيرة مدينة منتفضة، وسيرة مواطن قرّر أن يناهض حكومة «البعث» لكنه سقط في فخّ الجلادين وأوشك على أن يفقد حياته لولا مصادفة انتقال «أبو درع» إلى سجن الرضوانية، الضابط البدوي الذي يجمع في طوّيته بين ازدواجية العنف والطيبة، وهذه عُقدة أخرى تنضاف إلى العُقد السابقة لشخصيات النص السردي الذي يتناول مرحلة دقيقة وحرجة من تاريخ الشعب العراقي الذي انسحق غير مرة بسبب صراع الأحزاب السياسية على السلطة والثروة.
تسترجع الرواية القادة العراقيين الذين طالبوا بتبعية الكويت للعراق أمثال الملك غازي، والزعيم عبد الكريم قاسم، لكن صدام حسين هو الذي ضمّها في ساعات معدودة، شبّهها الراوي بملخّصٍ لحرب دامت ثماني سنوات، ووصفها ساخراً بمُقدمة لكتاب اسمه «تحرير فلسطين»! إنّ ما يهمنا من الأحداث التاريخية في هذه الرواية هي الانتفاضة التي انطلقت شرارتها من «ساحة سعد» بالبصرة في 3 مارس (آذار) 1991 وامتدت مثل النار في الهشيم إلى 14 محافظة عانت الأمرّين من حُكم الطاغية الذي قمع كل العراقيين الذين وقفوا في الخندق المناوئ له ولحزبه الفاشي الذي تخلّق بأخلاق الجلاد.
ومن بين حوادث الثأر والتصفيات الجسدية الكثيرة ركزّ الراوي على مسؤول الفرقة الحزبية راجي المزروع الذي لم يتوارَ مثل بقية البعثيين وإنما ظلّ في داره كأنه يتحدى الجميع رغم انهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية فتعرّض للقتل حتى إنّ جسده أصبح منخلاً، لكنهم لم يأخذوا العائلة بجريرته فتركوها تلوذ عند الأخيار. لا بد من التوقف عند عنف الشخصية العراقية وقسوتها، فبعد أن أصبح المزروع جثة هامدة تغرق في بِركة من الدماء بدأ أحد المنتفضين يدعك وجهه بحذائه، وآخرون يبصقون عليه، وثالث موتور، فقدَ خمسة من ذويه بتُهم متعددة يرقص على صدره، ومع أنّ المجتمع العراقي يقرّ بأنّ «إكرام الميت دفنه» إلاّ أنّ المنتفضين بالغوا في الإساءة إلى الميت، الأمر الذي يُذكِّرنا بالمصائر المُفجعة للعائلة المالكة وما عانته من قتل وسحل وتشويه امتدّ بعد بضع سنوات ليطال الزعيم نفسه ومئات اليساريين. غير أن الراوي يدين هذا التصرّف الوحشي الفظّ حين يقول: «أشحتُ بوجهي عن المشهد، وآمنتُ حقاً بأنّ صفحة معتمة لطفولتنا تنتهي وفق تلك الطريقة البشعة من العنف».
يتسع الفضاء السردي شيئاً فشيئاً، وتتعدد الشخصيات رغم أن الأحداث تتمحور حول عبد الله «الأعرج»، الشخصية الرئيسة التي تحضر بقوة منذ مستهل الرواية حتى نهايتها، فنتعرف على أبيه عبد الرحيم الذي مات في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وعلى أمه جميلة التي لا تتذكّر شيئاً سوى ابنها أحمد الذي ذهب في بعثة دراسية إلى ألمانيا قبل الحرب ولم يعد، وسوف تموت بعد أن تعرّض مُلحق المستشفى لضربة جوية. وهناك شقيقتاه الكبرى والصغرى وصهره. ولو خرجنا من نطاق الأسرة ستدهمنا شخصية المعلّم كامل الرامي الذي يرى الحياة من زاويته الخاصة التي لا تتناغم مع رؤية الآخرين وتصوراتهم. فبينما كان الناس تنهب في دوائر الدولة ومؤسساتها كان هو يفتش عن كتاب مهم أو وثيقة سريّة. لم تتضح نتائج الانتفاضة، ففي يومها الثاني غطّت صور المعممين العراقيين والأجانب حيطان المدينة، وبعد مقتل المزروع وضابط الأمن التكريتي، وقصف جسر التنّومة بدأت ملامح القصة الغامضة تتضح بعد أن تصافح الجنرالات في «خيمة صفوان» بينما كان المنتفضون يعتقدون أن الأميركان «سيلتقطون صدام مثلما تلتقط البوم جرذاً من ذيله». لكن العكس هو الذي حدث تماماً، فقد عاد البعثيون بشراسة أكبر، وعادت صور صدام إلى الجدران، الأمر الذي دفع عبد الله وصهره لأن يُلقيا البنادق في بالوعة المرحاض. لقد اندحرت الانتفاضة، وبدأت المجازر من جديد. لم يهرب عبد الله وعائلته إلى إيران مثلما فعل بعض العوائل، فقد آثر البقاء، وأصبح ضحية لرجال الفرقة الحزبية، والعناصر الأمنية التي تفتش في ضمائر المنتفضين وعقولهم.
يتعرّض عبد الله «الأعرج» في القسم الثاني من الرواية إلى الاعتقال بعد أن دهمه عناصر الأمن واقتادوه إلى السجن. وفي التحقيق يُتهم بأنه مسؤول عن إذاعة شط العرب، وأنّ اعترافه بهذه التهمة يعني الإعدام، وتأكيد جريمة صهره، ومعلّمه كامل الرامي، فلم يكن أمامه إلاّ الإنكار رغم بنيته الواهنة، وقدمِه العرجاء المتنمِّلة. يمرّ عبد الله بثلاثة سجون تتشابه في قسوتها وهي سجن «شط العرب» وسجن «البصرة المركزي» وسجن «الرضوانية» في بغداد وثمة سجن فرعي في مستشفى تابع للرضوانية يُديره نائب ضابط أكثر وحشية من السجون الثلاثة التي حُشِر بها وذاق مرارتها، فهذا الجلاد يُوسع ضحاياه ضرباً حتى يسقط لاهثاً على الكرسي من الإعياء. لم يتركوا نوعاً من التعذيب إلاّ ومارسوه مع عبد الله الأعرج إلى أن يظهر «أبو درع»، وكيل المسؤول الأمني في السجن فيدقق ملفه من جديد ويخلي سبيله لأنه وجد صفحته بيضاء ناصعة رغم التهم الموجهة إليه، فيستعيد عبد الله حريته ويدرك أنه أمضى أقسى ثلاثة أشهر في حياته.
قبل أن نختم المقال لا بد من الإشارة إلى ملحوظتين أساسيتين: الأولى تتعلق بتجريد العراق من الإطلالة البحرية مع أنّ القاصي والداني يعرف جيداً أن مدينة الفاو مطلّة على رأس الخليج العربي وأنّ خور عبد الله هو المنفذ الوحيد على البحر، فليس من المعقول القفز على هذه الحقيقة التاريخية والجغرافية بالقول إنّ العراق لا ساحل له منذ زمن هارون الرشيد حتى الوقت الحاضر. أما الملحوظة الأخرى فتتعلّق بأبي درع الذي يجمع بين الطيبة والعنف في سجن الرضوانية الذي كان يضم المناوئين لحكومة البعث، والمعروف أنّ النظام السابق لا يسمح بوجود جلادين يمكن أن يتعاطفوا مع الضحايا مهما كانت درجة براءتهم وأن وجود هذا الشخص يُربك مصداقية العمل الروائي.